للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

للعجز، عن مواراتها التراب وغفلته، ولكن لذلك ولأصل الجريمة بالذات، ولذلك كان التعبير بأخي، وإن هذه أولى درجات الندم، إذ إن أولى الدرجات فيه أن يحس بعظم الجريمة التي ارتكبها، وأثر الإثم الذي فعله، فقد فعل ما فعل بعد ترديد الفكرة مرتين، ولكنه ما إن فعل حتى رأى أثر الجريمة مجسما، وبذلك كانت الحسرة، ثم كان الندم، ولذلك قال سبحانه بعد ذلك:

(فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ) بعد أن رأى جثة أخيه بين يديه، وغفل عن أن يواريها، وأحس البلية التي وقع فيها من رؤية جثمان أخيه الطيب ملقى، وهو عرضة لسباع البهائم وسباع الطير تنهشه - أدرك مقدار الشر الذي ارتكبه، ومن المقررات العلمية أن أول إحساس بهول الجريمة أن يرى المجرم الفريسة التي افترسها، سواء أكان ذا قربى أم لم يكن ذا قربى، فما بالك إذا كان المقتول لم يرتكب إثما، بل فعل برا، ولم يكن منه شر وأذى، بل كان منه عظة وإرشاد. وإن ذوي الخبرة من رجال التحقيق يستخدمون رؤية المقتول سبيلا لاعتراف القاتل، فإنه بمجرد رؤيته تضطرب أعصابه، ويتخلى عنه ثباته وإصراره على الإنكار، وإن لم يصرح بالاعتراف، فإن قرائن الارتكاب تتكون من اضطراب ظاهر، ومن سرعة نبض، ومن اصفرار وجه، وذلك سبيل لأخذ الاعتراف الصريح، لأن صوت الفطرة المستنكر يستيقظ ويتحرك، ويظهر في حركات الجوارح، وخلجات اللسان، واضطراب الأعصاب، وسرعة النبض، ولذلك كانت الندامة التي اعترت أول حاسد وأول قاتل، وقد صار من النادمين، أي أنه دخل في زمرة النادمين، بعد أن كان في زمرة المترددين الحاقدين الحاسدين الباغين.

وإن هذا الندم لَا يعد غافرا للذنب، وإن كان أول طريق للتوبة هو الندم على الفعل الذي وقع، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " التوبة ندم " (١) كما روى الإمام أحمد والإمام البخاري رضي الله عنهما، وإنما كان ذلك الندم ليس من التوبة لأنه


(١) " الندم توبة "، رواه أحمد: مسند المكثرين - مسند عبد الله بن مسعود رضي الله عنه (٣٥٨٨)، وابن ماجه: الزهد - ذكر التوبة (٤٢٥٢).

<<  <  ج: ص:  >  >>