للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وقد ذكر سبحانه وتعالى أنه أرسل الرسل بالبينات، وهي الشرائع البينة الواضحة التي تحمل في نفسها دليل صلاحها، وتوضح غاياتها ومراميها، ومعها الدليل القاطع المثبت لصحة الرسالة من معجزات باهرة، وخوارق صارخة، وقد أكد سبحانه بعث هؤلاء الرسل وسلامة ما يدعون إليه بمؤكدات ثلاثة: أولها - باللام وقد، إذ قال: (وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا). وقد مؤكدة للخبر، واللام مؤكدة لما بعدها.

ثانيها - بالتعبير بأن الرسل جاءتهم، أي لاصقوهم وصاروا قريبين منهم يخاطبونهم ويحاجونهم ويبينون لهم، ولا يدعون أمرا فيه التباس إلا أزالوا لبسه، ومنعوا الاشتباه عليهم.

وثالثها - أنه سبحانه أضاف الإرسال إلى ذاته العليا، وفي ذلك بيان قدسية الرسالة، وفوق ذلك هي في ذاتها فيها حقائق واضحات منيرة للحق في ذاتها، فلها بذلك شرفان: شرف ذاتي من حقائقها، وشرف إضافي من مُنزلها. ولكن الآيات والنذر إنما تغني من يذعنون للحق ويؤمنون، والبينات مهما تكن نيرة لَا يدرك نورها إلا ذو البصيرة المستنيرة، وليس بنو إسرائيل من هذا الصنف؛ ولذا قال سبحانه:

(ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِّنْهم بَعْدَ ذَلِكَ فِى الأَرْضِ لَمُسْرِفونَ) كان العطف بـ " ثم " للإشارة إلى بعد ما بين البينات الواضحات التي جاءت بها الرسل، ونتيجتها في قلوبهم، فهي في ذاتها أمر بين ولكن نتيجتها لم تكن كحقيقتها طيبة مثمرة في قلوبهم، بل كانت كالبذر الطيب يلقى في أرض سبخة لينبت قليلا، ويخرج حبطا (١) في أكثرها، ولم يحكم سبحانه على اليهود جميعهم بأنهم كانوا جميعا مفسدين، بل حكم على كثير منهم ذلك الحكم، كما قال تعالى: (. . . مِّنْهمْ أُمَّة مُّقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ منْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ).


(١) الأرض السَبِخة: أي ذات ملح ونز (البور). والحَبَط: أن تأكل الماشية فتكثر حتى تنتفخ بطونها ولا يخرج عنها ما فيها. الصحاح.

<<  <  ج: ص:  >  >>