للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وإنما قيل للرشوة السحت تشبيها بذلك، كأن بالمسترشي من الشره إلى أخذ ما يعطاه من ذلك - مثل الذي بالمسحوت - المعدة من الشره إلى الطعام، يقال منه: سحته، وأسحته لغتان محكيتان عن العرب. . . ومنه قوله تعالى: (. . . فَيُسْحِتَكم بِعَذَابٍ ... ). وتقول العرب للحالق: " اسحت الشعر، أي استأصله ".

ونرى أن ابن جرير ذكر الرشوة فقط هنا، وإن كان السحت يشمل أكل مال الناس بالباطل، ولو كان هدية في نظير مسعى حميد كما ذكرنا عن ابن مسعود، وقد روي عن مسروق التابعي أنه شفع لرجل في حاجة، فأهدى إليه جارية فغضب غضبا شديدا، وقال: لو علمت أنك تفعل هذا ما كلمت في حاجتك، ولا أكلم فيما بقي من حاجتك، سمعت ابن مسعود يقول: " من شفع شفاعة ليرد بها حقا، ويرفع بها ظلما فأهدى له فقبل فهو سحت ".

وإن هذا الكلام المروي يبدو منه أمران: أحدهما أن كل أكل لمال الغير بالباطل يعد سحتا سواء أكان برضاه أم كان بغير رضاه. وثانيهما - أن الصحابة والتابعين لهم بإحسان كانوا لفرط إيمانهم بالحق ووجوب نصرته يرون أن نصرة الحق ودفع الباطل يجب أن تكون لله، وأنه لَا يصح أخذ أجر في نظيرها، ولو كان هدية تعطى في مسمحة ومحبة، حتى لَا يرنق قول الحق بغرض من أغراض الدنيا، وحتى لَا يستغل الجاه، ولكي تعلو معنويات الأمور، ولا تسيطر مادياتها.

وإن اليهود قد اشتهروا بالسحت، وخصوصا في الحكم، وقد أرادوا من النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يحكم بينهم بشرعته رجاء أن يكون في حكمه ما هو أخف من حكم ما عندهم، لَا طاعة لحكمه، وخصوصا للحق عنده، ولذا قال سبحانه: (. . . فإن جَاءوكَ فَاحْكم بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ) يومئ هذا النص الكريم إلى أنهم سيتحاكمون إليه، وقد تحاكموا إليه بالفعل لَا طلبا للحق والعدل، ولكن رجاء التخفيف عمن أرادوا التخفيف عنه، وروى في موضوع التحاكم الذي ذهبوا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ليحكم فيه عدة روايات تنتهي إلى خبرين:

<<  <  ج: ص:  >  >>