للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

تعزير بعيد عنها، والأول أولى؛ لأن التعزير لَا يعتبر فيه جنس الجناية ولا قدرها، بل يعزر بالسوط أو العصا، وقد يكون من لطمة أو ضربة بيده، فأين حرارة السوط ويبسه إلى لين اليد، وقد يزيد وينقص، وفي العقوبة بجنس ما فعله تحرٍّ للمماثلة بحسب الإمكان، وهذا أقرب إلى العدل الذي أمر الله تعالى به وأنزل به الكتاب والميزان، فإنه قصاص بمثل ما نزل بذلك العضو في مثل المحل الذي ضرب به بقدره، أو يزيد قليلا أو ينقص قليلا، وذلك عفو لَا يدخل تحت التكليف ".

سقنا هذا الكلام مع طوله لأن فيه توضيحا للنظرة الإسلامية السليمة في المساواة والتماثل بين الجريمة والعقوبة، وإن ترك تلك السنة إلى التعزير أدى إلى التفاوت بين الناس في العقاب، وذلك ما لَا يقره الكتاب ولا السنة ولا يؤيده قياس، بل يؤيده أعراف فاسدة، وأخذ ظالم بنظام الطبقات المفرِّق. (فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كفَّارَةٌ لهُ) الكفارة ستر الذنوب، بألا يحاسب عليها بين يدي الله تعالى، بل يغفرها الله تعالى له ويسترها فلا يظهرها، بل تكون عند الله تعالى من التائبين المنيبين إليه سبحانه، تقدست ذاته، وتعالت صفاته.

وهذا النص يفتح باب التسامح من المجني عليه، وهذا يدل على أن العقوبة لم يقصد بها الانتقام المجرد، بل قصد الزجر، وإشعار الجاني بأن سوط العقاب مسلط عليه؛ ولذلك دعا القرآن الكريم إلى العفو إن كان له موضعه، فقال تعالى: (. . . فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ. . .).

فكان في هذا النص تحريض على العفو بذكر الأخوة الرابطة، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - كلما حكم بالقصاص دعا إلى العفو، ولكن بعد أن يعطي لولي الدم أو المجني عليه زمام الأمر وتمكينه من القصاص ليشفي غيظه، ويردع الجاني بجعل حياته أو جسمه رهن إشارته.

وفى قوله تعالى: (فَمَن تَصدَّقَ بِهِ) الضمير يعود إلى القصاص، والمعنى من تصدق بهذا القصاص على الجاني، فإنه صدقة كسائر الصدقات، والصدقة كما

<<  <  ج: ص:  >  >>