للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وخلاصة هذه التفرقة: أن العمل يكون عادة بانبعاث شهوة من طمع في مال، أو لذة جسد، أما الصنيع، فإنه يكون بمهارة وتدبير وتعرف للغايات والنتائج ولو كانت آثمة، وأن الصنيع يكون بالعمل وغيره، ومن أحسن من قال في التفرقة فخر الدين الرازي في تفسيره الكبير، فقد قال موضحا ما ذكره الزمخشري وغيره، والمعنى أن الله تعالى استبعد من علماء أهل الكتاب أنهم ما نهوا سفلتهم وعامتهم عن المعاصي، وذلك يدل أن تارك النهي عن المنكر بمنزلة مرتكبه؛ لأنه تعالى ذم الفريقين في هذه الآية على لفظ واحد، بل نقول: إن ذم تارك النهي عن المنكر أقوى؛ لأنه تعالى قال في المقدمين على الإثم والعدوان وأكل السحت: لبئس ما كانوا يعملون، وقال في العلماء التاركين للنهي عن المنكر: لبئس ما كانوا يصنعون، والصنع أقوى من العمل؛ لأن العمل إنما يسمى صناعة إذا صار مستقرا راسخا متمكنا فجعل جرم العاملين ذنبا غير راسخ، وذنب التاركين للنهي ذنبا راسخا، والأمر في الحقيقة كذلك، لأن العصية مرض الروح، وعلاجه العلم بالله وبصفاته، وبأحكامه، فإذا حصل هذا العلم وما زالت المعصية كان مثل المرض الذي شرب صاحبه الدواء فما زال ".

وإن هؤلاء الربانيين والأحبار لم يكن ما أخذ عليهم هو السكوت عن النهي فقط، بل إنهم رتعوا فيما رتع فيه غيرهم، وبذلك ضلوا، وكانوا سببا في فساد الجمع كله، ولعنهم وطردهم كما قال تعالى: (لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (٧٨) كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (٧٩).

ولقد قال ابن عباس في هذه الآية: (لَوْلا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ) إنها أصعب آية في كتاب؛ لأنها تبين إثم الذين يقصرون في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهما عصام الأمر، ومانعا الإثم، وبهما صلاح الجماعة الإنسانية، روى الإمام أحمد أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " ما من قوم يكون بين أظهرهم من يعمل بالمعاصي وهم أعز منه وأمنع، ولم يغيروا إلا أصابهم الله بعذاب من عنده ".

<<  <  ج: ص:  >  >>