التأويل الثاني - أن الذي بدا لهم هو عذاب الآخرة، وهولها، وشدائدها، وقد كانوا ينكرونها، فظهر ما كانوا يجحدون، ولكن كيف يكون ذلك قد أخفوه، وهل الإنكار المعلن إخفاء؟ والجواب عن ذلك أن الفطرة الإنسانية توجب التصديق إذا قام الدليل، وأن المعاندة حيث قام الدليل إخفاء لما يقتضيه. وقد قال تعالى:(وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ. . .). فجحودهم كان إخفاء لموجبات الإيمان، وأن شهوة السلطان والعصبية، وغلبة الدنيا والفساد عليهم جعل الحق يختفي عليهم، ويخفونه هم بالمعاندة والمكابرة، والمماراة، فلما كانت الآخرة، وكانت القيامة بأهوالها بدا ما كان مختفيا، وأخفت الأهواء والمعابث، وظهرت الحقائق وأحسب أن المعنيين مستقيمان، ولا مانع من جمعهما، فالنص يعمهما.
ولقد ادعوا في تمنياتهم أنهم يعودون ليكونوا في ضمن المؤمنين، ولا يكذبوا بآيات ربهم الذي خلقهم وكونهم وحماهم، فبين سبحانه أنهم لو ردوا إلى الدنيا بزخارفها وعصبياتها، وأهوائهم وشهواتهم، وحب الغلب لعادوا لما نهوا عنه من الإعراض عن الآيات، والمكابرات في المعجزات، والاستهانة بالإيمان والمؤمنين، ووقعوا في كل المخابث التي كانت منهم، وذلك لأن السبب في الجحود هو سيطرة الهوى والشهوة والعصبية الجاهلية، فإن عادوا إلى الدنيا بمتعها البراقة فسيستولي عليهم بريقها، ويكون منهم ما كان أولا.
ولقد أكد الله سبحانه كذبهم في أمنياتهم ونتائج تمنياتهم فقال:(وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ) والكذب هنا خاص بما يمكن أن يقع منهم، وما أرادوا في تمنيهم الأماني، فتمنياتهم كاذبة لَا يمكن أن تحقق، ولو عادوا لكان منهم ما وقع أولا؛ إذ إنهم يعودون بما كانوا يحملون من ركائز في نفوسهم، فالتكذيب لما يكون منهم في المستقبل، وقد أكد سبحانه تكذيبهم بـ " أن " وبالجملة الاسمية، وباللام المؤكدة.