للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وهناك تخريج آخر، لقوله: (مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَىْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِم مِّن شَىْءٍ) بأن المعنى ما عليك شيء من حساب رزقهم إن كانوا فقراء وما من حسابك في الفقر والغنى عليهم من شيء، أي إنك أنت هاد ومرشد، داع إلى من يقرب منك ومن يجيب، وسواء أكان فقيرًا أم كان غنيا، فكيف ترد فقيرًا مهديا لفقره وتقرب غنيا غير مهدى لغناه فإن تطردهم من بعد فإنك تكون من الظالمين، ومعاذ الله أن يكون ذلك منك.

إن الضعفاء أول من يتبع الأنبياء، لأنهم غير مشغولين بالمال والبنين وزخارف الحياة، وضجاتها، ولجاجة القوة وخصوصًا ما يكون منها على غير أساس من الأخلاق، فنفوسهم تكون أقرب إلى الفطرة والاستقامة؛ ولذلك كان غالب الذين اتبعوا النبي - صلى الله عليه وسلم - من الضعفاء والعبيد، وكل الذين يحسون بآلام الحياة الدنيا، ورجاء حياة أخرى، ولقد سأل هرقل ملك الرومان أبا سفيان ابن حرب الذي كان قائد الشرك إبان ذاك عمن يتبع النبي - صلى الله عليه وسلم - أشراف الناس يتبعونه أم ضعفاؤهم؛ فقال: بل ضعفاؤهم، فقال هرقل: فكذلك أتباع الرسل (١).

وإن هذا بلا ريب اختبار لنفوس الأقوياء فقوله: (فتنا) معناها اختبرنا، وكان فتنة لهم من ناحيتين: الناحية الأولى أن جاههم مع كبريائهم سيكون حاجزًا لا يسهل دخول الإيمان في قلوبهم. الثانية سيجدون أن الذين يسبقونهم إلى الإسلام هم الضعفاء، فيكون ذلك صعوبة نفسية أخرى لَا تسهل دخول الحق إلى قلوبهم، ويقول قائلهم الضال: (. . . لَوْ كَانَ خَيْرًا مَّا سَبَقُونَا إِلَيْهِ)، ومن يجتاز هاتين الصعوبتين من الأقوياء يكون إيمانه أرسخ من الجبال كأبي بكر الصديق، وعثمان بن عفان، وحمزة بن عبد المطلب، وعمر بن الخطاب،


(١) راجع هذا الحديث، في صحيح البخاري: بدء الوحي - باب بدء الوحي (٧)، ومسلم: الجهاد والسير - كتاب النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى هرقل ملك الروم (١٧٧٣) فيما رواه عبد الله بن عباس رضي الله عنهما عن أبي سفيان رضي الله عنه. وهو حديث طويل.

<<  <  ج: ص:  >  >>