إن الله تعالى عتب على نبيه - صلى الله عليه وسلم - أن أذن لهم عندما استأذنوا، ولو لم يأذن لكشف أمرهم، وتبين أنهم كاذبون في ادعاء العذر ولا عذر لهم، لأنهم لم يريدوا الخروج ابتداءً، وأكد الله تعالى عدم قصدهم الخروج، فقال:(وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوج) لبدت أماراته، فأعدوا العدة من إعداد الكراع (١) والسلاح، وما تحتاج إليه حرب شديدة فيها ملاقاة الرومان الذين كانوا أقوى دولة في ذلك الإبان، ولكن لم يعدوا عدة، فلم يكونوا على نية الخروج، وأظهروا ما في مقصدهم باعتذارهم، وكان ذلك خيرا للمسلمين، وكره الله تعالى أن يخرجوا، فقال تعالى:(وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ) ومعنى الاستدراك أنه منع لوهْم إرادة الله - تعالى - خروجهم؛ لأن مؤدى إعلانه على عدم خروجهم قد يوهم إرادة الله خروجهم، فنفاها سبحانه بهذا الاستدراك، فقال:(وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ) والانبعاث النهوض للخروج مع المجاهدين، وكراهية اللَّه تعالى لخروجهم لما علم سبحانه أنهم يريدون الخبال والاضطراب للمؤمنين، كما تدل على ذلك الآيات التالية، وكما دلت على ذلك الأمور الكثيرة التي كانت تقع بإثارة الفتنة منهم، ولكن كانوا كلما أوقدوا نارا لفتنة أطفاها الله سبحانه وتعالى.
(فَثَبَّطَهُمْ) أي خذلهم وأوقع في نفوسهم نزوع الكسل والضعف، وأزال رغبتهم في النهوض إلى النفير مع جيش الإيمان، وما ذلك إلا للمصلحة المترتبة على منعهم من الخروج، فما أريد التثبيط لذاته، ولكن أريد ما يترتب عليه من حماية جيش الإيمان من الفتن يبثونها فيه، وإثارة الخلاف، إن سنحت لهم أسبابه ولا يضعف الجيش إلا النزاع، كما قال تعالى:(. . . وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا. . .).
فكانت المصلحة في ألا يخرجوا، (فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ)(قيل) بالبناء لمفعول، وأسند إلى المفعول لتعدد عوامل التخذيل التي كانت في مضمون القول، فجبنهم، وإرادة الشر بالمؤمنين وبعد الشقة، وكون الغاية فيه بعيدة، وفساد
(١) الكُراع: اسم لجميع الخيل والدواب التي تصلح في الحرب.