فإن المقابلة تقتضي التغاير بين القاعدين الذين لم يصدقوا الله ورسوله وكذِّبوا، وبين المعذرين، ولكن المقابلة لَا تكون إلا إذا كان اعتذار الأولين حقا وصدقا.
وقراءة " المُعْذِرون " بالتخفيف من الإعذار، وهو إبداء العذر الذي يكون مظنة القبول.
وإننا نجد أن الآية من قراءاتها المختلفة تفيد إبداء العذر، وإن المقابلة بين القاعدين الذين كذبوا الله ورسوله، والمعتذرين تفيد أن العذر مقبول اقتضى الأمر لهم.
وقد جاء بذلك التفسير المأثور، فقد روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال في المعذرين: هم الذين تخلفوا لعذر فأذن لهم النبي - صلى الله عليه وسلم -، وروي عنه غير ذلك، والله أعلم، وقيل إنها نزلت في عامر بن الطفيل ورهطه، فإن رهطه قالوا عندما دعاهم - صلى الله عليه وسلم - إلى الغزو قالوا: لو غزونا معك أغارت أعراب طيئ على حلائلنا وأولادنا ومواشينا، فعذرهم النبي - صلى الله عليه وسلم - (١).
وقوله تعالى:(وَجَاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ) يفيد أولا أن الذين جاءوا هم المعذرون ولم يذكر الذين جاءوا مجاهدين؛ لأن منهم من جاء مجاهدا، وخصوصا أولئك الذين كانوا مع الرومان في مؤتة، وتخلفوا عنهم في تبوك وخذلوهم، ولكن ذكر المعتذرين فقط؛ لأن الكلام في المستأذنين في التخلف بأعذار غير صادقة وهم المنافقون، فناسب ذلك ذكر المعتذرين من الأعراب.
وتفيد ثانيا أنهم جاءوا للاعتذار وليؤذن لهم، ولو كانوا يعتذرون كذبا ما جاءوا بل قعدوا كما قعد غيرهم، وقال تعالى:
(وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ) أي قعد وتوانى الذين كذبوا الله ورسوله، وكذبوا بالتخفيف تتضمن معنى التكذيب لله ولرسوله، ولآياته البينات، ومعنى
(١) ذكره القرطبي: الجامع لأحكام القرآن - ج ٨، ص ٢٢٤. عن ابن عباس رضي الله عنهما.