وذكر من بعد أنه كان من توبته أن ينخلع عن كل ماله، فقال:" أمسك عليك بعض مالك فهو خير لك " فأمسك سهمه الذي أخذه في غزوة خيبر، وانخلع عن باقي ماله (١).
وهنا نقف وقفة قصيرة نتحدث فيها بثلاثة أمور:
أولها - لماذا أهمل أمر الذين تخلفوا وقدموا معاذير جلُّها كاذب، وأقلها فيه صدق، نقول: ترك أولئك لأن الكاذب منهم لَا يرجى منه خير، ولو عوقب ذلك العقاب ما أجدى معه، وربما عاند فزاد ضلالا، والنبي - صلى الله عليه وسلم - لَا يقدم على عمل يزيد الضلال ولا ينقصه، وربما كان الترك أجدى، والله يهدي من يشاء.
أما هؤلاء الثلاثة فإنهم صدقوا، والصدق بر وهو يهدي إلى البر، وكان لابد من أن يرحض عن نفوسهم ما علق من شائبة التخلف، وذلك بالهجر الجميل، الذي أحسوا فيه بمغبة عملهم، وزاد نفوسهم صفاء.
الأمر الثاني: أنهم صبروا أعنف الصبر وأقواه، وهو الصبر على الحرمان من الأنس بالناس، والالتقاء نفسيا بمن يحبونهم، ويخالطونهم، فإن الإنسان اجتماعي مدني، تعيش نفسه في وسط نفوس متجاوبة.
الأمر الثالث - أن استنكار القبيح، أو ما يظن فيه قبح يغسل النفس منه، وإن المجتمعات الفاسدة هي التي لَا يستنكر فيها فعل القبيح، ولو تكاثر عدد الصالحين، فالاستنكار مهذب الإثم، والله سبحانه هو الحكيم العليم.
* * *
(١) متفق عليه؛ رواه البخاري: المغازي - حديث كعب بن مالك (٤٤١٨)، ومسلم: التوبة - حديث توبة كعب بن مالك (٢٧٦٩).