إيتاء موسى عليه السلام الإيمان به، وقد أنقذهم من ظلم فرعون الذي كان يذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم، ورأوا تسع آيات حسية ملزمة، ورأوا آيات اللَّه تعالى فيهم ونعمه ظاهرة وباطنة تفيض عليهم، مع كل هذا لم يذعنوا لما جاء به من شرائع بل اختلفوا فيه، فإذا كانوا قد اختلفوا في شأنه ما بين مذعن ومؤول ومخالف، فكيف تنتظر يا محمد من قوم أميين أن يذعنوا بمجرد النزول.
و (الفاء) في قوله: (فَاخْتُلِفَ فِيهِ) للعطف والترتيب من غير تراخ، وكأنه ترتب على إيتاء اللَّه تعالى موسى الكتاب الاختلاف، وهذا يدل على أن الاختلاف ليس ناشئا من ذلك الكتاب، بل هو ناشئ من فساد النفوس وإذا فسدت النفوس لا يقنعها الدليل، ولا يهديها البرهان مهما يكن حاسما.
وقد افترق اليهود على فرق شتى حول التوراة ما بين ربانيين وقراءين، وصدوقيين لَا يؤمنون باليوم الآخر.
ويبدو من فرقهم أن الاختلاف في شأن الكتاب كان في فهمه، حتى ضلوا وحرفوا الكلم عن موضعه، وأتوا بكتاب لم يُنزل على موسى، وقالوا إنه من الكتاب، واجس منه في شيء.
وقد قال تعالى:(وَلَوْلا كَلمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ) ولولا أن اللَّه تعالى يمهل الظالمين إلى يوم يبعثون، ويتركهم يتجادلون، ليزيد ابتلاؤهم لقضى بينهم في هذا الاختلاف وبين الحق الذي لَا يحتار فيه أحد، ولكنه تركهم يتعرفونه؛ لأنه خلقهم ذوي مدارك، ومع كل نفس فجورها وتقواها.
وقال تعالى:(وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ) الشك معناه التظن في الحق، وقد بدت دلالة، والريب هو نتيجة هذا التظنن، والضمير في قوله:(وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ) يعود إلى المشركين كما يقول أكثر المفسرين، والضمير في (مِّنهُ) يعود إلى القرآن.