للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وقد عبر سبحانه عن لين الجانب والرفق وتقريب القلوب وإدنائها بقوله:

(وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ) وذلك مجاز بالاستعارة مشهور، فشبه صبحانه وتعالى حنو محمد - صلى الله عليه وسلم - على أتباعه، بوضع الطائر أولاده بين جناحيه، للمبالغة في الحيطة والحفظ والصيانة. وإن هذا النص السامي تصغير لما عند المشركين، وتعظيم لمنِ آمن، كقوله تعالى: (وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ (٥٢).

وإن هذا النهي لصاحب الرسالة عن أن يمد عينيه إلى ما متع الله به الأقوياء وأعطاهم أزواجا متماثلة من متع الدنيا هو نهي لأمته، وفيه بيان كيف يتدلى الحق إذا مد صاحبه العين إلى ما عليه أهل الدنيا، فإنه هنا تكون المذلة ويكون التدني عن مقام الحق الأعلى، إلى المنزلة الدون أمام أهل المال والجاه والسلطان والباطل، وهو سلطان أهل هذا الإيمان.

ولقد قال القرطبي في تفسيره في التعليق على هذه الآية: " رأى القراء المخلصون من الفضلاء الانكفاف عن الذات والخلوص لرب الأرض والسماوات أولى، لما غلب على الدنيا من الحرام، واضطر العبد في المعاش إلى مخالطة من لا تجوز مخالطته، ومصانعة من تحرم مصانعته، فكانت القراءة أفضل والفرار من الدنيا أصوب للعبد وأعدل قال - صلى الله عليه وسلم -: " يأتي على الناس زمان يكون خير مال المسلم غنما يتبع بها شعف الجبال ومواقع المطر، يفر بها من الفتن ". اهـ.

وأحسب أن زماننا أشد الأزمان فتنة في نفسه، إذ تولاه الجهال، وسيطر على الفكر الجهال، وتولى على رياسة العلم من يبيعون دينهم لهؤلاء الجهلاء بثمن بخس مهما تكن قيمة الدرهم والدينار، وصح فيه ما روي بحديث قوي السند حتى ادعى تواتره: " إن الله لَا ينزع العلم انتزاعا من قلوب العلماء، إنما ينزع العلم بتولي جهلاء يضلون ويضل بهم الناس " أو كما قال - صلى الله عليه وسلم -.

<<  <  ج: ص:  >  >>