ْوقد قال تعالى (وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ)
وإن مقتضى النسق أن يقول سبحانه والصابرون بالعطف على الموفون بعهدهم إذا عاهدوا ولكن كان النصب على أنه مفعول لفعل محذوف هو أخصّ الصابرين فهي منصوبة على الاختصاص، لمعنى في الصبر وهو واحد في الفضائل وأفعال الخير السابقة.
وهنا يسأل سائل، إن الجمل السابقة متعاطفة فقوله:(وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ) عطف عليها (وَأَقَامَ الصَّلاةَ وآتَى الزَّكَاةَ) فلماذا كان عند الكلام على الوفاء والصبر عبر بالوصف دون الفعل؟ والجواب عن ذلك فيما يظهر لي - والحقيقة عند منزل القرآن فعنده سر البيان الذي لَا نسمو إلى إدراكه - وهو أن إعطاء المال وإقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة أفعال مطلوبة في ذاتها، وهي تتجدد آنًا بعد آنٍ وإن كانت واجبة على الدوام، أما الوفاء فالفضيلة فيه أن يكون صفة دائمة لَا أن يكون فعلا ثم ينقطع، بل يكون حلية يتحلى بها المكلف، وكذلك الصبر المطلوب فيه أن يكون صفة مستمرة تظهر في كل أعماله من عبادات ومعاملات وأعمال، يصبر في كل أمر يقتضي الصبر على النعماء فيرضى ويشكر، ويصبر على الشديدة فلا يفزع، ويصبر على الضراء فلا يئن.
وقد ذكر سبحانه وتعالى مواطن للصبر يختبر فيها النفس فلا تطيش ولا تضطرب؛ إذ الصبر ضبط النفس فلا تهلع ولا تتبرم ولا تجزع ولا تضطرب ولا تطيش. وقد ذكر الله الصبر في البأساء وهي الشدة التي تنزل من فقر مدقع، ومن طاغية يطغى، ومن نوازل تنزل، كخسف أو ريح عاصف، أو سوء معاملة أو نحو ذلك مما يصيب الإنسان في الحياة، والصبر فيها هو ألا يهلع، وأن يفوض أمره إلى الله تعالى، ويرجو كشف الغمة ولا تذهب نفسه شَعاعا، بل يكون مالكا لنفسه مدركا بقلبه ومبصرًا بما يدفع عنه الأذى راجيا من الله تعالى العون في هذه الشديدة النازلة.