للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

آخر الآية، والآية التي نتعرض للكلام في معانيها الآن، هي لحماية الجماعة الإسلامية من الآفات التي تفتك في بنائها، وتحميها أيضا من الاعتداء وتفريق النفوس، وتأريث الأحقاد، فإذا كان من البر إعطاء المال على حبه للضعفاء، وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والصبر لأنه يؤلف القلوب، فمن البر أيضا الضرب على أيدي المفسدين، ومنعهم من أن يعيثوا في الأرض فسادا.

ولذا كانت آية القصاص في ترتيب التنزيل وراء آية البر؛ لأن كليهما في بناء الجماعات الإسلامية، ونفي ما يهدد بنيانها، وإن العرب في الجاهلية كانوا لا يقتصون من الجاني، وإنما يثارون من القبيلة، والدماء فيهم لَا تتكافأ في نظر العصبية الجاهلية، فماذا قتل رجل من عامة الناس رئيس قبيلة لَا يقتل القاتل أو لَا يكتفي بقتله، بل يقتل من يكافئ رئيس القبيلة، وقد يقتل بالواحد مئات لكي يتكافئوا مع من قتل، وهكذا كان قانون الغلب، وقانون العصبية لَا قانون القصاص العادل هو الذي يحكم، وكان ذلك ناشئا من العصبية أولا، وفرض التفاوت ثانيا، والثأر الذي لا عدل فيه ثالثا.

جاء القرآن الكريم ليمحو هذه العادة الجاهلية، وإثبات أن الناس جميعا سواء، وأن المسلمين كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " تتكافأ دماؤهم، ويسعى بذمتهم أدناهم، وهم يد على من سواهم " (١)، وفي ذلك إشارة إلى أنهم لَا يكون أقوياء أمام من سواهم إلا بالعدل الذي لَا يفرق بين شريف وضعيف.


(١) أخرجه بهذا اللفظ الإمام أحمد: مسند المكثرين (٦٥٠٦) عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، وذكره، وبنحوه أخرجه أبو داود في الجهاد (٢٣٧١) وابن ماجه: الديات (٢٦٧٥).
ورواه النسائي: كتاب القسامة (٤٦٥٠) من طريق أخرى قال: عَنْ قَيْس بْنِ عُبَاد قَالَ: انْطَلَقْتُ أَنَا وَالْأَشْتَرُ إِلَى عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقُلْنَا: هَلْ عَهِدَ إِلَيْكَ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَيْئًا لَمْ يَعْهَدْهُ إِلَى النَّاسِ عَامَّةً؟ قَالَ: لَا، إِلَّا مَا كَانَ فِي كِتَابِي هَذَا، فَأَخْرَجَ كِتَابًا مِنْ قِرَابِ سَيْفِهِ، فَإِذَا فِيهِ «الْمُؤْمِنُونَ تَكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ وَهُمْ يَدٌ عَلَى مَنْ سِوَاهُمْ، وَيَسْعَى بِذِمَّتِهِمْ أَدْنَاهُمْ أَلَا لَا يُقْتَلُ مُؤْمِنٌ بِكَافِرٍ، وَلَا ذُو عَهْدٍ بِعَهْدِهِ، مَنْ أَحْدَثَ حَدَثًا فَعَلَى نَفْسِهِ أَوْ آوَى مُحْدِثًا، فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ ". وأصله في البخاري ومسلم. وقد سبق في المقدمة.

<<  <  ج: ص:  >  >>