للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

الحاجة، ذانكم عقابان أحدهما في الدنيا، وهو مشتق من ذات الجريمة فهو عقاب من ذات الفعل، والآخر وهو على ما لم يستعد له من الحساب وقد جاء من إنكار البعث، ولو كان قد آمن به لاستعد له، وما فوجئ به وارتج قلبه، فكان هذا عذابا شديدا؛ لأن اللسان يقف حيث الحاجة أشد ما تكون إليه، والبصر يكون عليه غطاء عند إرادة الإبصار.

هاتان العقوبتان قبل عذاب الآخرة الذي يكون بعد الحساب، وتقدير الجزاء، وهذان العقابان ينالان من أسرف في أمره، وانغمر في الشهوات، ولذلك قال تعالى: (وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ).

كهذا العقاب الدنيوي من إحساس بضنك العيش والضيق فيه والتبرم بحياته والإحساس بفقد الاطمئنان لأي شيء، والإسراف على نفسه باللذات، وبالإحساس بالحرمان المتجدد الذي لَا يشبع من لذة، ثم يستكبر الأمور، ولذا تجده يكثر الانتحار وبخع النفس عند المسرفين في المعاصي، والمسرفين على أنفسهم بقلقهم، وعدم اطمئنانهم ومع ذلك يكون إحساسهم بسد الطرق في وجوههم.

فالإشارة في قوله تعالى: (وَكذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ) وهي إلى المعيشة الضنك، والحشر أعمى (وَكَذَلِكَ) مفعول لـ (نَجْزِي)، والتعبير بالموصول (مَنْ) للإشارة إلى أن الصلة، وهي الإسراف، سبب لذلك الجزاء.

وقد بين سبحانه أن وراء هذا العذاب عذابا أشد وأبقى، فقال عز من قائل:

(وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَشَذ وَأَبْقَى) وهو الذي يكون بعد الحساب، وتقرير أن الجزاء أشد لأنه بالنار، وهو أبقى أي إنهم يكونون في جهنم خالدين فيها وبئس المهاد.

ولقد ذكر الله تعالى لمشركي مكة ما جاءهم من عبر، وما ساقه من قصص هاد مرشد فقال عز من قائل:

(أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى (١٢٨)

<<  <  ج: ص:  >  >>