للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

ولا يطيع الناصح بل يؤذيه، وربما يقتله؛ فالله كافيه ومتوليه، وهو العزيز المنتقم الجبار، والله سبحانه ينزل به العذاب الأليم، بإلقائه في نار الجحيم؛ فمعنى (فَحَسْبُهُ جَهَنَّم) أي جهنم هي التي تكفيه، بدل كلمة الحق التي كانت تؤذيه، (وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ) اللام هنا تنبئ عن قسم مقدر وهي داخلة على جوابه، والمهاد جمع مهد، وهو المكان المهيأ للنوم، والتعبير عن جهنم بأنها بئس المهاد لَا يخلو من تهكم بأولئك الفاجرين، كما يقال: (تحية بينهم ضرب وجيع) وكقوله تعالى: (فَبَشِّرْهم بِعَذَابٍ أَلِيم).

وبعد، فإن أول مظاهر الطغيان صم الآذان عن سماع كلمة الحق؛ ولعل الأمارة الظاهرة للحاكم العادل هي سماعه النقد والملام، فضلا عن الوعظ والإرشاد؛ وأمارة الحاكم الطاغي تبرمه بنصح الناصحين ونقد الناقدين فضلا عن لوم اللائمين؛ والمثل في التاريخ كثيرة مستفيضة؛ يروى أن رجلا قال لعمر بن الخطاب أمثل الحكام: اتق الله، فقال بعض الحاضرين أو تقول لأمير المؤمنين: (اتق الله) فالتفت الفاروق، وقال: ألا فليقلها، لَا خير فيكم إذا لم تقولوها، ولا خير فينا إذا لم نسمعها! وعمر هذا هو الذي صاح عندما تولى: من رأى منكم فيَّ اعوجاجا فليقومه فقال أعرابي: والله لو رأينا فيك اعوجاجا لقومناه بسيوفنا! فقال أبو حفص: الحمد لله الذي جعل في أمة محمد من يقوِّم عمر إذا اعوج! ولو تنزلنا عن مقام عمر مقام الصديقين لوجدنا من بعض الحاكمين حتى في عصور الاستبداد من يستمع إلى كلمة الحق أحيانًا؛ يروى التاريخ أن يهوديا له حاجة تلقى هارون الرشيد، وهو خارج، وقال له: اتق الله يا أمير المؤمنين وذكر حاجته، فنزل هارون عن دابته وخر ساجدًا، ثم أمر فقضيت لليهودي حاجته؛ فقيل له: يا أمير المؤمنين نزلت عن دابتك لقول يهودي! قال: لَا، ولكن تذكرت قول الله تعالى: (وَإذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْم فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ).

وبجوار هذه الذكريات العطرة، توجد صور معتمة؛ ومن ذلك ما قاله أحد ملوك بني أمية: من قال لي: اتق الله قطعت عنقه.

<<  <  ج: ص:  >  >>