للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

محروم الدنيا هو المنعم في الآخرة، والجزاء على الأعمال لَا على الأموال، وعلى القلوب لَا على الأحساب، وعلى التقوى لَا على الأنساب؛ ولذلك قال سبحانه: (وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَاب) فالله سبحانه هو الرزاق ذو القوة المتين، يعطي من يشاء ويمنع من يشاء، ولا أحد يحاسبه، وليس عطاؤه دليل رضاه، فقد يعطي الكافر، وهو غير راض عنه كما قال تعالى: (وَلَوْلا أَن يَكونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحدَةً لَّجَعَلْنَا لِمَن يَكْفرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِّن فِضةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ)، والرزق في الدنيا منوط بأسباب دنيوية يجيدها الكافر كما قد يجيدها المؤمن، ومن سلك سبيلها وطلبها من مظانها رزقه الله، مؤمنا كان أو كافرًا، ومن تنكب الطريق، لم يرزقه الله، وله فوق الأسباب تصريف الحكيم وتدبير العليم سبحانه، إنه على ما يشاء قدير.

والخطأ أن يجعل تقدير الناس بأموالهم لَا بأعمالهم، وبمظاهرهم لا بنفعهم، روي أن رسول الله كان بين أصحابه فمر بهم رجل فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - لرجل جالس عنده: " ما رأيك في هذا؟ فقال: رجل من أشراف الناس، هذا والله حري إن خطب أن ينكح، وإن شفع أن يشفع، وإن تكلم أن يسمع فسكت رسول الله؛ ثم مر رجل آخر فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " ما رأيك في هذا فقال: يا رسول الله إن هذا رجل من فقراء المسلمين، هذا حري إن خطب ألا ينكح، وإن شفع ألا يشفع، وإن قال لَا يسمع لقوله، فقال - صلى الله عليه وسلم -: " هذا خير من ملء الأرض مثل هذا " (١).

وإن المال هو الذي يضل العباد فيجعلهم يخطئون في تقدير الناس، وتقطع به الأواصر، ولو قدره الناس حق قدره، ولم يتجاوزوا به الحد ما كانت تلك الآفات، ولو كان الناس يقدرون بفضائلهم لَا بأموالهم وتساووا في الحقوق أمام القانون ما كان ذلك الألم الذي يمض الفقير، وحسْبُ الغني أن المال عبء عليه، وأنه ظل زائل، وعرض حائل؛ ولقد قال - صلى الله عليه وسلم -: " يقول ابن آدم مالي مالي، وهل لك من مالك


(١) رواه البخاري: النكاح - الأكفاء في الدين (٤٧٠١) عن ابن سعد رضي الله عنه.

<<  <  ج: ص:  >  >>