ويقول رضي الله عنه في إفساد الناس لمعاني الكتب المقدسة بسبب تحكيم المنافع الدنيوية والشهوات فيها:" يتخذ الواحد منهم كلمة من الكلمات أو أثرا ممن جاء به، وسيلة إلى تسخير غيره لما يريد، وذلك بقطع الكلمة أو الأثر عن بقية ما جاء في الكتاب والآثار الأخرى، وليّ اللسان أو تأويله بغير ما قصد منه، وما همُّ المؤول أن يعمل بالكتاب، وإنما كل ما يقصد هو أن يصل إلى مطلب لشهوته، أو عضد لسطوته، سواء أهدمت أحكام الله أم قامت، واعوجت السبيل أم استقامت؛ ثم يأتي ضال آخر يريد أن ينال من هذا ما نال غيره فيحرف ويؤول، حتى يجد المخدوعين بقوله، ويتخذهم عونًا على الخادع الأول، فيقع الاختلاف، والاضطراب؛ وآلة المختلفين في ذلك هو الكتاب "(١).
(وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ) من شأن الكتاب أن يزيل الخلاف ويحسم النزاع إن احتكموا إليه واهتدوا بهديه، وهو لَا يحمل الناس على الهداية حملا بل ينير الطريق ويهدي إلى التي هي أقوم، فهو كالضوء لَا يخلق البصر، ولكن ينير للمبصر؛ وهو كالدليل في الصحراء يبين السلك ولا يحمل على السير؛ ولذلك لم يزل الخلاف بين الناس بنزول الكتاب، بل يوجد خلاف آخر حوله؛ لأن الأهواء إذا استحكمت، لَا تسترشد بمرشد، ولا تتبع هاديا؛ ولذلك قال سبحانه وتعالى:(وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوه).
(١) قال الشيخ الإمام رحمه الله: نقلنا ذلك الكلام مع طوله ليعلم الناس رأي الإمام في طريق التأويل الصحيح، وليدركوا بطلان أقوال الذين يتعلقون بالإمام ليخضعوا الشريعة لحكم الزمان، فيعاقبون على الطلاق بالحبس والغرامة بدعوى عدم صلاحية ذلك للزمان، ويبيحون الربا بدعوى أن ذلك مصلحة الأيام، ويبيحون القمار بدعوى أنه كالبيع، أو هو تبرع، وهكذا وهكذا، ويحسبون أنهم يقلدون الإمام، والإمام من منهجهم بريء إلى يوم الدين، وتلك عباراته بقلمه، فقد كتب تفسير هذه الآية بقلمه (ج ٢ ص ٢٨٦، ٢٨٩).