للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ:

هَذِهِ الْآيَةُ مِنْ مُشْكِلَاتِ الْقُرْآنِ مِنْ وَجْهَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: أَنَّ هَذِهِ صِيغَةُ الْخَبَرِ، وَهُوَ عَلَى مَعْنَاهُ، كَمَا بَيَّنَّاهُ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ وَشَرَحْنَاهُ، رَدًّا عَلَى مَنْ يَقُولُ: إنَّ الْخَبَرَ يَرِدُ بِمَعْنَى الْأَمْرِ؛ وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ أَخْبَرَ أَنَّ الزَّانِيَ لَا يَنْكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً. وَنَحْنُ نَرَى الزَّانِيَ يَنْكِحُ الْعَفِيفَةَ.

وَقَالَ أَيْضًا: وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ، وَنَحْنُ نَرَى الزَّانِيَةَ يَنْكِحُهَا الْعَفِيفُ، فَكَيْفَ يُوجَدُ خِلَافُ مَا أَخْبَرَ اللَّهُ بِهِ عَنْهُ؟ وَخَبَرُهُ صِدْقٌ، وَقَوْلُهُ حَقٌّ لَا يَجُوزُ أَنْ يُوجَدَ مُخْبِرُهُ بِخِلَافِ خَبَرِهِ؛ وَلِهَذَا أَخَذَ الْعُلَمَاءُ فِيهَا مَآخِذَ مُتَبَايِنَةً، وَلَمْ أَسْمَعْ لِمَالِكٍ فِيهَا كَلَامًا. وَقَدْ كَانَ ابْنُ مَسْعُودٍ يَرَى أَنَّ الرَّجُلَ إذَا زَنَى بِالْمَرْأَةِ ثُمَّ نَكَحَهَا أَنَّهُمَا زَانِيَانِ، مَا عَاشَا.

وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: " أَوَّلُهُ سِفَاحٌ وَآخِرُهُ نِكَاحٌ ". وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ مِثْلَهُ. وَقَالَ: " هَذَا مِثْلُ رَجُلٍ سَرَقَ ثَمَرَةً ثُمَّ اشْتَرَاهَا "، وَأَخَذَ مَالِكٌ بِقَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ، فَرَأَى أَنَّهُ لَا يَنْكِحُهَا حَتَّى يَسْتَبْرِئَهَا مِنْ مَائِهِ الْفَاسِدِ.

وَرَوَى الشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ أَنَّ ذَلِكَ الْمَاءَ لَا حُرْمَةَ لَهُ، وَرَأَى مَالِكٌ أَنَّ مَاءَ الزِّنَا وَإِنْ كَانَ لَا حُرْمَةَ لَهُ، فَمَاءُ النِّكَاحِ لَهُ حُرْمَةٌ، وَمِنْ حُرْمَتِهِ أَلَّا يُصَبَّ عَلَى مَاءِ السِّفَاحِ، فَيُخْلَطُ الْحَرَامُ بِالْحَلَالِ، وَيُمْزَجُ مَاءُ الْمَهَانَةِ بِمَاءِ الْعِزَّةِ؛ فَكَانَ نَظَرُ مَالِكٍ أَشَدَّ مِنْ نَظَرِ سَائِرِ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: فِي التَّنْقِيحِ:

وَأَمَّا مَنْ قَالَ: إنَّهَا نَزَلَتْ فِي الْبَغَايَا فَظَاهِرٌ فِي الرِّوَايَةِ. وَأَمَّا مَنْ قَالَ: إنَّ الزَّانِيَ الْمَحْدُودَ وَهُوَ الَّذِي ثَبَتَ زِنَاهُ لَا يَنْكِحُ إلَّا زَانِيَةً مَحْدُودَةً، فَكَذَلِكَ رُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ، وَأَسْنَدَهُ قَوْمٌ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَهَذَا مَعْنًى لَا يَصِحُّ نَظَرًا كَمَا لَمْ يَثْبُتْ نَقْلًا. وَهَلْ يَصِحُّ أَنْ يُوقَفَ نِكَاحُ مَنْ حُدَّ مِنْ الرِّجَالِ عَلَى نِكَاحِ مَنْ حُدَّ مِنْ النِّسَاءِ؛ فَبِأَيِّ أَثَرٍ يَكُونُ ذَلِكَ أَوْ عَلَى أَيِّ أَصْلٍ يُقَاسُ مِنْ الشَّرِيعَةِ؟

<<  <  ج: ص:  >  >>