للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

الإسرائيلية التي ذكروها، وهي صارفة عن العبرة، ولا مزيد كمال فيها. المتبادر من السياق أن أولئك القوم خرجوا من ديارهم بسائق الخوف من عدو مهاجم لَا من قلتهم، فقد كانوا ألوفا أي كثيرين، وإنما هو الحذر من الموت الذي يولده الجبن في أنفس الجبناء، فيريهم أن الفرار من القتال هو الواقي من الموت، وما هو إلا سبب الموت. . ولما خرجوا فارين (فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا) أي أماتهم بإمكان العدو منهم؛ فالأمر أمر التكوين، لَا أمر التشريع؛ أي قضت سنته في خلقه بأن يموتوا بما أوتوه من سبب الموت؛ وهو تمكين العدو المحارب من أقفائهم بالفرار، ففتك بهم وقتل أكثرهم؛ ولم يصرح سبحانه بأنهم ماتوا، لأن أمر التكوين مشيئة الله سبحانه. . (ثُمَّ أَحْيَاهُمْ) إنما يكون الإحياء بعد الموت؛ والكلام في القوم لَا في أفراد. . . فمعنى موت أولئك القوم أن العدو نكل بهم فأفنى قوتهم، وأزال استقلال أمتهم، حتى صارت لَا تعد أمة، بأن تفرق شملها، وذهبت جامعتها، فكان من بقي خاضعين للغالبين، ضائعين فيهم مدغمين في غمارهم لَا وجود لهم في أنفسهم، وإنما وجودهم تابع لوجود غيرهم؛ ومعنى حياتهم هو عودة الاستقلال إليهم؛ ذلك أن من رحمة الله تعالى في البلاء يصيب الناس أنه يكون تأديبًا لهم، ومطهرًا لنفوسهم مما عرض لها من دنس الأخلاق الذميمة. أشعر الله أولئك القوم بسوء عاقبة الجبن والخوف والفشل والتخاذل بما أذاقهم من مرارتها، فجمعوا كلمتهم، ووثقوا رابطتهم، حتى عادت لهم وحدتهم قوية، فاعتزوا وكثروا إلى أن خرجوا من ذل العبودية التي كانوا فيها إلى عز الاستقلال. فهذا معنى حياة الأمم وموتها " (١).

وهذا نظر الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده، ونراه نظر إلى مرمى الآية الكريمة، وهو يتجه إلى أن الموت والحياة هو موت الأمم وحياتها؛ وموت الأمة ليس بموت آحادها، إنما هو بذهاب الجامعة التي تربطها، واندغامها في غيرها، حتى لا يصبح لها كيان قائم بذاته؛ وحياتها هي عودة هذه الوحدة الجامعة، والعزة المسيطرة والكيان المستقل.


(١) تفسير المنار ج ٢ ص ٤٥١.

<<  <  ج: ص:  >  >>