كل هذا من فضل الله على الناس (وَلَكِنَّ أَكْثرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ) لا يشكرون هذه النعم ويقومون بحقها عليهم، فإن شكر النعم أن يحس المنعم عليه بفضل المنعم، ويحمده ويثني عليه، ويقوم بحق الإنعام بأن يجعل ما أنعم الله به عليه لخيره وخير الناس، ويستعمله فيما أحله سبحانه.
وأكثر الناس قد كفروا هذه النعم؛ فمنهم من أشرك مع المنعم سبحانه غيره من أحجار وأوثان وشمس وبقر ونار، فطمس الله على بصيرتهم؛ ومنهم من كفر بما أودع الله نفسه من قوة، فاستخذى واستكان، ورضي بالمكان الدون، والمنزل الهون؛ ومنهم من تقاعس في الدفاع عن حوزته ودياره وهو على ذلك قادر حتى أبيح الحمى وهدمت الديار؛ ومنهم من فر من لقاء الأعداء، حتى آل إلى الموت الخسيس، وقد جهل نعمة الله على الناس، وسننه فيهم وهي أنه لَا ينجي من الموت إلا الإقدام على الموت مدرعًا بكل وسائل القتال والدفاع؛ وأن من يطلب الموت ينال الحياة، ومن يفر من الموت الشريف يطلبه الموت الذليل تلك سنة الله في خلقه، ولن تجد لسنة الله تبديلا.
هذا موضع قوله تعالى:(إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ) في مقام بيان عاقبة الذين يتركون الجهاد ويفرون حذر الموت، وهو يدل على أن أولئك الفارين لم يقوموا بحق المنعم الذي أنعم عليهم؛ إذ لم يطيعوه بأخذ الأهبة والاستعداد، ولم يعتمدوا عليه سبحانه بعد أن يأخذوا بالأسباب، وكفروا بأنعم الله عليهم ولم يقوموا بحقها فعطلوا قواهم ورضوا بالفرار والعار، وعندهم القدرة على الدفاع مستعينين بالله سبحانه.
وقد قال تعالى في وصف ذاته الكريمة (إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى الناسِ) أي لصاحب فضل دائمًا، أي أن الفضل على الناس بلازم ذاته الكريمة، فهو المتفضل سبحانه وتعالى دائمًا؛ تفضل بالإيجاد، وتفضل بإيداع القوي، وتفضل بسن السق الكونية والشرائع الهادية، والإرشاد القويم؛ وتفضل بأن أقام الأمور على الحق والقسط، وأن الخير يدفع الشر، وأهل الحق يدفعون الباطل وأنصاره، وأن