للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

الجهاد بذلا للأنفس والمهج في سبيل حياة أعز فلابد فيه من بذل المال؛ فالجهاد بذل للنفس والنفيس معًا، ولذا أردف سبحانه الأمر بالقتال بعد ضرب الأمثال، بالأمر بالبذل والعطاء، فقال عز من قائل:

(مَن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا) القرض: أصل معناه اللغوي: القطع، ومنه المقراض، ثم أطلق على معنى المجاوزة؛ لأنها قطع للمكان؛ ومن ذلك قوله تعالى: (وَإِذَا غَرَبَت تَّقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ. . .)، أي تتجاوزهم وتدعهم إلى أحد المكانين، ومنه انقرض القوم أي انقطعوا من الدنيا وتجاوزتهم.

وسمي إسلاف المال وبذله في سبيل الخير قرضًا لأنه يقتطع من المال المدخر، وينتقص منه، والمال نظير النفس فكأنه يقتطع من النفس، ولذلك كان الجواد شجاعًا عادة؛ لأن بذل النفيس كبذل النفس كلاهما ينبع من نفس واحدة فالجود والشجاعة صنوان أو أخوان لَا يولدان إلا من أب واحد، ولا يترعرعان إلا في منبت واحد وبيئة واحدة، والبخل والجبن أخوان منبتهما واحد، ومولدهما واحد؛ فالبخيل جبان في مجرى العادة، وقد دل على ذلك الاستقراء.

والقرض بعد هذا البيان هو إسلاف المال في السبيل الحسن لمعاونة صديق أو سد حاجة معوز أو حماية الدولة أو إغاثة ملهوف على أن يرد مثله من غير وكس ولا شطط؛ وقد يكون من جنسه مالًا بمال، وقد يكون العوض أزكى من المال وأنمى منه، وأنفع وأبقى، وذلك هو الإسلاف في سبيل الخير غير مبتغ جزاء ولاشكورًا إلا من خالق الناس مالك الملك ذي الجلال والإكرام.

والزمخشري يرى إطلاق القرض على بذل المال من غير رجاء لرد البدل في الدنيا إطلاقا مجازيا، كأنه يرى - رحمه الله - أن القرض في حقيقته اللغوية، إسلاف المال على أن يأخذ بدله، لأن ذلك هو الحقيقة التي آل إليها اللفظ بعد انتقاله من معنى القطع المجرد فيكون استعمال القرض في هذا الموضع من قبيل المجاز في نظر الزمخشري، فقد شبه هنا بذل المال في سبيل الخير ورجاء ما عند الله ورضوانه والثواب القيم في الآخرة، والتوفيق والبسط في الرزق في الدنيا؛ شبه هذا بمن يبذل المال ليرد عليه مثله، فعبر باللفظ الدال على المشبه به في معنى المشبه.

<<  <  ج: ص:  >  >>