وليس بذل المال للجهاد هو وحده الذي يكون فيه الجزاء الدنيوي ودفع الهلاك عن النفس، بل سد حاجة المعوزين وإعطاء المال للسائل والمحروم فيه عزة الأمة؛ لأنه لَا عزة لأمة لَا تدفع المتربة عن آحادها وتذل فقراءها؛ ولئن تململوا بحياتهم لكان التقاطع والتنابز، ومن وراء ذلك الخراب، وأن يكون بأس الأمة بينها شديدًا، تحسبهم جميعًا وقلوبهم شتى.
هذا فوق أن البذل في سبيل الله والإنفاق في سبيل الخير والنفع العام والمصالح الإنسانية يلقي في النفس سعادة واطمئنانًا لَا يشعر بهما إلا الأبرار؛ وإن الله يبارك في رزق الذين ينفقون، فوق غنى النفس الذي تمتلئ به النفس؛ وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: " ليس الغنى عن كثرة العرض، ولكن الغنى غنى النفس "(١).
فالبذل والعطاء في سبيل الخير يدفع ضرًا، ويقي من شر، ويحمي الجماعة من الآفات، ويسعد النفس، ويبارك في رزق المعطي، ويكثر قوى الإنتاج في الأمة، فتقوى الأيدي كلها على العمل فيعم الخير، وتكثر الثمرة، ويكون الإنتاج الطيب الذي يعم ولا يخص، فمن أعطى قليلا يأخذ كثيرًا في نفسه وقومه وأهله وعشيرته.
وقد ذكر سبحانه أن الأرزاق كلها بيد الله، فعلى كل امرئ أن يعرف أن الغنى ليس بالعمل فقط، بل بتوفيق الله تعالى وتقديره وهو العزيز العليم؛ ولذا قال تعالى:(وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ).
وهذا هو الطريق الثالث الذي اشتملت عليه الآية الكريمة في الحث على البذل والعطاء في سبيل الخير، فقد بين بهذا سبحانه أنه تعالى القابض الذي يقتر الرزق على من يشاء، ويبسط الرزق لمن يشاء، فعلى الغني أن يستشعر في نفسه أنه كان يجوز أن يخلقه الله فقيرًا لَا يستطيع إعطاء، فعليه أن يشكر النعمة التي أعطاها الله سبحانه وتعالى إياه، وإن شكرها أن يبذلها في سبيل النفع العام، ثم ليعلم أن
(١) متفق عليه؛ رواه البخاري: الرقاق - الغنى غنى النفس (٥٩٦٥)، ومسلم الزكاة (١٧٤١) عن أبي هريرة - رضي الله عنهما.