للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

ولما انتقل إلى المدينة لم يحارب أحدًا إلا بعد أن شنوا عليه الغارة، أو استعدوا لها، وألبوا عليه، وكان على ذلك إلى أن انتقل إلى الرفيق الأعلى.

وإن حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي قال فيه لرجل: " أسلم وإن كنت كارها " لَا يدل على جواز الإكراه في الدين؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - ما أكرهه بالسيف أو بالأذى على أن يسلم، بل إن الرجل بدت له البينات الواضحات، والحجج النيرات، ومع ذلك كان مأخوذًا بما ألف، كارهًا بعاطفته لأن يغير ما كان عليه آباؤه؛ فالنبي - صلى الله عليه وسلم - يوصيه بأن يتغلب على إحساسه ويتبع البرهان والدليل؛ وكثير من الناس يبدو له وجه الحق واضحًا، وتلوح له بيناته باهرة، ومع ذلك يكره السير في هذا النور، اتباعًا لما كان معروفًا، وسيرًا وراء ما كان مألوفًا؛ فمثل هذا عليه أن يتبع الحق ولو كان كارهًا، وأن يستولي على نفسه فيحملها على اتباع الحق ولو كرهته؛ والطاعات قد تثقل على النفوس، ولكن يجب اتباعها؛ ولذا قال - صلى الله عليه وسلم - " حفت الجنة بالمكاره " (١) فحديث النبي - صلى الله عليه وسلم - لهذا الرجل من هذا الباب.

بعد هذا البيان نكرر ما قررنا وهو أن هذه الآية محكمة غير منسوخة، وخصوصًا أن ادعاء النسخ لَا دليل عليه، وإن النسخ لَا يصار إليه إلا إذا لم يمكن التوفيق بين الآيتين، فلو أمكن التوفيق ولو بتخصيص إحدى الآيتين لوجب السير إلى التخصيص دون النسخ؛ وإن التوفيق هنا ممكن بين آيات القتال وهذه الآية، بل إن شئت الحق فقل إنه لَا تعارض حتى تكون محاولة التوفيق، فما كان القتال لحمل الناس على الإسلام، بل كان القتال لدفع الاعتداء أولاً، ولكي يخلو الوجه للدعوة الإسلامية ثانيًا، ولتكون كلمة الحق هي العليا ثالثًا، والناس في كل الأحوال أحرار فيما يعتقدون وما يؤمنون به (إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ. . .).

ولقد روي في سبب نزول هذه الآية: (لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ) أن رجلا من الأنصار من بني سالم بن عوف يقال له الحصين، كان له ابنان نصرانيان، وكان هو


(١) متفق عليه؛ رواه البخاري: الرقاق (٦٠٠٦)، ومسلم: الجنة وصفة نعيمها (٥٠٤٩).

<<  <  ج: ص:  >  >>