ولماذا شدد سبحانه في النهي عن المن والأذى، وكرر ذلك في ثلاث آيات متواليات، وأكثر من التشبيه لتقبيح المن والأذى في الصدقة؟
الجواب عن ذلك: أن المن والأذى في الإنفاق ينشأ عن استطالة الغني بفضل غناه، والمباهاة بثروته وقدرته، وإنه لَا شيء يرمض نفس الفقير إلا إحساسه باستعلاء الغني بسبب الغنى، وصغار الفقير بسبب الفقر، وإن ذلك يدفع بلا شك إلى تفكيك الروابط، وقطع ما أمر الله به أن يوصل، فإن الفقراء لَا يتألمون لذات الفقر إنما يتألمون من مرارته باعتزاز الغني عليهم، وإشعارهم بذل الحاجة، وعندئذ تتمرد النفوس، وتتعرض الأمم للخراب، وتذهب الوحدة الجامعة.
إن الغنى والفقر أمران لَا يخلو الوجود منهما، ولا يمكن أن تخلو أمة من غني وفقير، ما دامت القوى متفاوتة، والفرص لَا تواتي الجميع بقدر واحد، والأقدار لَا تسعف الجميع في زمن واحد، وما دامت تلك حقيقة مقررة، فعمل الشرائع هو تخفيف ويلات الفقر، ومنع استطالة الغني، ولقد قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه:(إن الله امتحن بعض عباده بالفقر، وأمرهم بالصبر، وامتحن الأغنياء بالمال، وأمرهم بالعطاء).
ولقد شبه سبحانه وتعالى المن والأذى بالرياء في الصدقة كما أشرنا فقال:
(كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ) وفي هذا التشبيه إشارة إلى أن الذي ينفق ماله رئاء الناس، أي لأجل الرياء والسمعة، وأن يقول الناس: إنه سخي جواد، أو لتملق ذي جاه - أسوأ حالا عند الله من ذي المن والأذى، لأن المشبه به أقوى دائما من المشبه. ولقد ذكر سبحانه حال المرائي بنفقته على أنه أمر مقرر سوءه، وليس في حاجة إلى بيان، لأنه لَا اشتباه في بطلان ما أنفق، إذ إنه ما قصد الخير حتى يبطل قصده، فالفرق بينه وبين الأول أن الأول قصد الخير واحتسبه، ولكنه أفسد عمله بما خالطه به من مَنٍّ وأذى؛ أما الثاني وهو المرائي فلم يقصد خيرا قط، حتى يبطله سواه، فشبه سبحانه حال قاصد الخير المنان في إبطال عمله، بحال من لم يقصد خيرًا قط، بل الرياء والسمعة، وهو من فعل الشرك