للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

من فقر مدقع إلا أهل الخبرة بالنفوس وذوو البصيرة النفاذة، والفراسة الصادقة، فهم لا يعرفون بفقرهم وحاجتهم وعوزهم، بل يحسبهم الجاهل، أي يظنهم أغنياء ويقوم ذلك بحسبانه وتقديره من غير أمارات ظاهرة وبينات قائمة، فالظن في قوله تعالى: (يَحْسَبُهُمُ) ظن في حسبان صاحبه فقط؛ و " الجاهل " إما أن يكون المراد به من لا يعرف حالهم، أو المراد به من لَا ينفذ إلى حقائق الأمور، بل يأخذها بمظاهرها التي تبدو بادي النظر، وليس عنده إحساس مرهف يعاونه على إدراك حال هؤلاء الفقراء مما يحيط بهم لَا من مجرد الظاهر، وهذا هو الحق، و " التعفف ": يكلُّف العفة إما بالمبالغة فيها، والشدة في النزاهة، أو بمحاولة الصبر عليها وتحمل الشقة في سبيلها، أي أن الدواعي لتركها أقوى من البواعث على الاستمساك بها، ولكنه يستعين بالصبر، فيرجح العفة بعد تكلف الشقة واحتمالها. والآية الكريمة تقبل المعنيين، فإن الفقير العاجز عن الكسب عند تحمله ما يتحمل الحر الكريم في سبيل عفته، والمحافظة عليها مبالغ في العفة؛ أولا: لأن المبالغة في العفة ليست بالقدر منها، إنما يكون بقدر ما يبذل في سبيل المحافظة عليها، فالغني لَا يبالغ في العفة إن امتنع عن أخذ أموال الناس، أو طلب المعونة منهم أو أكل مالهم بالباطل، أو سرقتهم أو اغتصابهم، ولكن العاجز عن الكسب يعد مبالغًا في العفة إن امتنع عن طلب المعونة، وهو في أمس الحاجة إليها. . وهذا الفقير يبالغ في العفة ثانيًا: بتحمل المشقات والتصبر عليها وفي سبيلها.

وأما الوصف الرابع فهو (تَعْرِفهُم بسِيمَاهُمْ) وهو أمر متصل بهم وبمن يراهم من ذوي الحس المرهف، والبصيرة الخافذة، ولذا كان الخطاب في معرفة سيماهم للنبي - صلى الله عليه وسلم - وهو البصير النافذ البصيرة، ولمن كان مقتديًا به من كل مؤمن قوي الوجدان، ممن قال فيه النبي - صلى الله عليه وسلم -: " اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله " (١).

والسيما: العلامة، فما هي علامة الفقراء المتجملين الذين ستروا حاجتهم، والتي يعرفون بها؟ قال بعض العلماء: التواضع والخشوع؛ وقال بعضهم: الرثاثة ومظاهر


(١) الترمذي: تفسير القرآن - ومن سورة الحجر (٣٠٥٢).

<<  <  ج: ص:  >  >>