للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

نَبَاتا حَسَنًا) أي أنشأها برعايته ومحبته وحَصَّنها، وكانت حالها كالنبات ينبته رب العالمين فينمو يوما بعد يوم حتى يستوي على سوقه، فكذلك كان مع مريم: تولى رعايتها من المهد، وغذاها بغذاء من الروح، فبعدت عن كل شر، وغذاها ونماها جسميا، فجعل لها رزقا مستمرا يأتيها من حيث لَا تحتسب، ولا يحتسب كافلها، أما التنشئة الروحية التهذيبية فقد كانت: بأن نشأت في بيت العبادة، وإن كان الكافل لها نبيا من الأنبياء، وأما الثاني فبالرزق المستمر كما أشرنا، وقد ذكرهما الله تعالى بقوله:

(وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقًا):

(وَكَفَّلَهَا): أي ضمها إلى زكريا، لأن الكفالة في أصل معناها الضم، وقد ضمها إليه لتكون في رعايته، وكان ذلك بإرادة الله، ونتيجة اقتراع كان بينهم، ذلك بأن الصالحين من قومها تنازعوا فيمن يكفلها، فاقترعوا فكانت القرعة لنبي الله زكريا، ولذا قال سبحانه: (ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مرْيَمَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ)، فكانت تلك القديسة الطاهرة في رعاية نبي، وتربت في مهد النبوة، لتكون هي وابنها آية للعالمين.

وأما كفالة الله تعالى لرزقها، فقد أشار إليها سبحانه بقوله: (كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقًا) المحراب هو مقدم بيت العبادة، فكأنها كانت في عكوف دائم بالمسجد منذ غرارة الصبا، بل كان ذلك وهي بالمهد، والرزق كان يجيء من حيث لَا يحتسب كافلها، إما من هبات توهب لها، أو من فيوض الله تعالى عليها، وهو خالق كل شيء، فمن خلق من العدم كل هذه الموجودات قادر على أن يؤتي لهذه المصطفاة رزقا جاريا لَا يعلمه إلا هو، وهو على كل شيء قدير. ومن أنكر ذلك، فقد أنكر علم الغيب، وهذا التخريج الأخير هو ما نراه حقا، ولذا عجب زكريا منه، فقال سبحانه حاكيا عنه:

<<  <  ج: ص:  >  >>