للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

(آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا) بأن تحبس أنت لسانك عن حديث الناس وتجعله خاصا لله ثلاثة أيام لذكره وتسبيحه طرفي النهار وزلفا من الليل، فهذه آية شكر في نظير آية إنعام، وقد يزكي ذلك الاتجاه أنه لَا دليل في الآية على العجز عن الكلام، فما قال تعالت كلماته ألا تستطيع الكلام، بل قال: (أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ) وإضافة عدم الكلام إليه يدل بظاهره على أنه امتنع اختيارا لَا اضطرارا، وأن الأنسب بشكر النعمة أن يكون امتناعه عن كلام الناس بالكف عنه، لَا بالعجز عنه، فإن الأول اختياري يعد شكرا، والثاني غير اختياري يعد عجزا، وإن سياق القصة في سورة مريم أظهر في الدلالة على الاختيار دون الإجبارِ إذ يقول سبحانه: (قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا (٩) قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا (١٠).

وقد كان الدعاء بطلب الولد في المحراب وإجابته فوره كما نوهنا، وكانت المجاوبة فيه أيضا، فخرج إلى الناس ينفذ طلب ربه في أن يحبس وهو مختار لسانه عن غير ذكر الله تعالى، ويعتزم العكوف على الذكر والتسبيح ويدعو الناس إليه بالرمز والإشارة، لَا بالكلام والعبارة. وإن هذا الاتجاه لَا ينكر الخوارق، ولكنه ليس في الآية ما يدل على الخارق، ويعتبر من مرشحات شكر النعمة أن يكون ترك كلام الناس اختيارا. وفوق ما تقدم فإن عطف قوله تعالى: (وَاذْكُر رَّبَّكَ كَثيرًا وَسَبِّحْ بالْعَشِيِّ وَالإِبْكَارِ). يقتضي أن يكون قوله تعالى: (أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ. . .) جملة طَلبية؛ لأن الجملة الطلبية لَا تعطف إلا على مثلها، وإذا كان الامتناع عن كلام الناس طلبا من الله العلي القدير، فهو اختياري من المكلف وليس حبسا وعجزا، أما إذا كان خارقا فهو إخبار وليس بطلب.

وهنا بعض عبارات نفسرها لفظيا:

الأولى: كلمة (إِلَّا رَمْزًا) قد جاء في تفسير الزمخشري: " إلا إشارة بيد أو رأس أو غيرهما، وأصله التحرك، يقال ارتمز إذا تحرك، ومنه قيل للبحر الراموز، وقرأ يحيى بن وثاب " إلا رمُزا " بضمتين جمع رموز كرسول ورسل؛ وقرئ " رَمَزاً " بفتحتين جمع رامز كخادم وخدم.

<<  <  ج: ص:  >  >>