للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

خير، أنصارا لكل شر (إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ) والمعنى المتبادر من هذا النص الكريم أن الله تعالى توفى عيسى كما يتوفى الأنفس كلها، وأنه رفع مكانته برفع روحه إليه سبحانه وتعالى، كما ترفع أرواح الأنبياء إليه سبحانه وتعالى، هذا ظاهر هذا النص، ولكن جاءت نصوص أخرى يفيد ظاهرها أن الله تعالى رفعه بجسده إليه سبحانه؛ فقد قال تعالى: (وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا (١٥٧) بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (١٥٨)، فظاهر هذا النص أن الله تعالى رفعه إليه بجسمه؛ لأنه مقابل بالقتل والصلب، ولا يصلح مقابلا لهما رفعه بالروح؛ لأنه يجوز أن يجتمع معهما، ويؤيد هذا ما ورد في صحاح السنة من أن عيسى عليه السلام سينزل إلى الأرض فيملؤها عدلا، كما ملئت جورا وظلما؛ فقد روى مسلم عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " والله لينزلن ابن مريم حكما عادلا فليكسرنَّ الصليب، وليقتلن الخنزير وليضعن الجزية، ولتُتركنَّ القلاص (١) فلا يسعى عليها، ولتذهبن الشحناء والتباغض والتحاسد، ويدعون إلى المال فلا يقبله أحد " (٢) فإن ظاهر هذا الحديث يفيد أنه ينزل بجسمه من الملكوت الأعلى.

وإزاء تعارض ظواهر النصوص على ذلك النحو، كان لابد من تأويل جانب منها لتكون ثمة مواءمة بينه وبين الأخرى، ففريق من العلماء وهم الأقل عددا، أجروا قوله تعالى في الآية الكريمة التي نتكلم في معناها على ظاهرها وأولوا ما عداها، ففسروا قوله تعالى: (إِنِّي مُتَوَفِيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ) بمعنى مميتك ورافع منزلتك وروحك إليّ، فالله سبحانه وتعالى توفاه كما يتوفى الأنفس كلها، ورفع روحه كما يرفع أرواح النبيين إليه.


(١) جاء في الهامش: القلاص جمع قلوص وهي الناقة، ولعل المعنى أن ابن آدم يتجرد للروحانية.
(٢) متفق عليه، وقد رواه بهذا اللفظ عن أبي هريرة - رضي الله عنه - مسلم: الإيمان - نزول عيسى ابن مريم حاكما بشريعة نبينا (٢٢١)، وبه رواه أحمد: باقي مسند المكثرين (١٠٠٠١)، ورواه البخاري: البيوع - قتل الخزير (٢٠٧٠).

<<  <  ج: ص:  >  >>