في حقيقة أمرهم وتفكيرهم أكثر اتصالا بالطبائع البهيمية منهم بالطبائع الإنسانية.
و (مِنْ) في قوله تعالى: (وَلْتَكُن مِّنكُمْ أمَّةٌ) قيل: إنها بيانية، وقيل. إنها تبعيضية، وهي تحتملهما معا، وعلى أنها بيانية يكون المعنى أن الأمة كلها عليها واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويكون التخريج اللفظي لقوله تعالى تقدست كلماته:(وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ) مثل قول القائل: ليكن منك رجل خير، أو ليكن منك رجل جهاد، أي ليكن منك رجل خير ورجل جهاد، فالمعنى الجملي للنص الكريم: ولتكونوا أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، وإذا كان ذلك الواجب على الأمة كلها، فهو يتفاوت بتفاوت مقدار ما أوتيه كل واحد من العلم والقوة، فعلى أولياء الأمر أن يرتبوا أمر الدعوة الإسلامية، وبيان الحقائق، ووضع النظم الزاجرة المانعة من الشر، أن يتفاقم أمره، ويشتد سيله، ويكون على العلماء واجب بيان الشرع في دروس عامة وخاصة، وبيان الحق في كل أمر يَجدّ في شئون الناس، وبيان طرق الدعوة إلى سبيل الله، ويكون على العامة كل في محيط وجوده وبمقدار طاقته أن يرشد وأن ينصح، فمن رأى رجلا يرفثُ في القول، أو يجرح كرامات الناس، أرشده ونهاه، ومن رأى رجلا يفطر في رمضان وعظه وهداه، ومن رأى رجلا لا يصلي حثه على الصلاة، على أن يكون ذلك برقيق القول، لَا بالجفوة والعنف فإن الجفوة لَا تجدي بل تبعد، والمودة تجدي وتقرب، وبهذا تكون الأمة كلها تتواصى بالحق، وتتواصى بالصبر والهداية.
هذا سياق القول على أن (مِنْ) بيانية، وأما سياقه على أنها تبعيضية، فيكون المعنى: ليكن بعض منكم أمة أي طائفة تُؤم وتقصد وتكون مجابة الدعوة، إذ تدعو إلى الخير أي إلى كل ما هو نافع في ذاته، ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، وعلى ذلك يكون في الآية الكريمة طلبان: