للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

الإنسان من فوران دم قلبه). والغيظ بلا شك يدفع إلى الثورة وهي مظاهر الغضب فكظمه إبقاؤه في النفس وعدم ظهور آثاره في القول أو في الفعل، وأصل كظم من كظم السقاء إذا ملأه وسد فاه، والكظامة ما يسد به مجرى الماء، وكظم البعير إذا لم يجتر.

وإن هذا الوصف ليس فيه منع للألم الذي يحدث من الأذى، بل إنه يدعو إلى كبح جماح الغضب ومنع نفسه من الاسترسال في مجاوبة الشر بمثله، وإن هذا لَا ينال إلا بشق الأنفس وقوة الإرادة: ولذلك قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " ليس الشديد بالصرعة، ولكن الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب " (١) ولقد اعتبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أقرب القربات ألا يغضب، واعتبر أن إبعاد المؤمن الغضب عن نفسه إبعاد لغضب الله تعالى عليه، فقد سأله أنس رضي الله عنه عما يبعد غضب الله تعالى، فقال له عليه الصلاة والسلام: " لا تغضب " (٢).

وإن غضب المؤمن يجب أن يكون لأجل حقوق الله، وغيظه يجب أن يكون لانتهاك حرمات الله تعالى. ولقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " ما من جرعة يتجرعها العبد خير له وأعظم أجرا من جرعة غيظ في الله تعالى " (٣).

هذا هو الوصف الثاني من أوصاف المتقين، أما الوصف الثالث فهو العفو، وهو ثمرة لكظم الغيظ، وإنه يجب أن يكون معه لأن الغيظ الشديد إذا لم يصحبه عفو فإنه يمض القلب، ويفسد النفس، وينهك القوى فلابد أن يقترن بالكظم العفو لمصلحة الشخص ولمصلحة الناس، ولكيلا تتولد الإحن (٤)، وتتكاثر المحن، وليس العفو هو الستر على الجرائم العامة، فإن الجرائم العامة إذا ظهرت وجب


(١) متفق عليه؛ رواه البخاري: الأدب - الحذر من الغضب (٥٦٤٩)، ومسلم: البر والصلة والآداب - من يملك نفسه عند الغضب (٢٦٠٩) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
(٢) رواه أحمد: مسند المكثرين (٦٣٤٦) عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو أنَّهُ سَألَ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: مَاذَا يُبَاعِدُنِي مِنْ غَضَب اللَّه عَزَّ وَجَلَّ قَالَ: " لا تَغْضَبْ ".
(٣) رواه ابَن مآجه: الزهد - الحلم (١٤١٧٩) عن ابن عمر رضي الله عنه.
(٤) الإحن: جمع إحنة، وهي الحقد، الصحاح.

<<  <  ج: ص:  >  >>