للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وإنهم إذ يستخفون من الناس لَا يشعرون برقابة الله على أعمالهم، لأن ذلك الشعور ينبعث من ضمير حي قوي موجه للنفس، والوجدان الديني القوي لا يكون في قلب جاف قاس، قد ترك الناس ولم يألفهم، وهذا معنى قوله تعالى: (وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ)، فهو مطلع عليهم، وإن كانوا لَا يشعرون، وعليم بأمرهم، وإن كانوا يستخفون من الناس، ويبتعدون عنهم.

والاستخفاء المبالغة في طلب الخفاء، والابتعاد، وذلك ليتسنى لهم تدبير ما يريدون، والله سبحانه معهم إذ يدبرون السوء، لذا قال سبحانه تعالت كلماته وجلت قدرته:

(وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا) هؤلاء الذين يستخفون من الناس مجافين لهم، ولا يشعرون برقابة الله تعالى عليهم، والله مطلع على أقوالهم وأعمالهم، اطلاع من يصاحبهم في غدوهم ورواحهم، وهو معهم عندما يدبرون الأعمال في خفية من الناس والأقوال التي لا يرضي الله عنها. فالتبييت تدبير الأمر في البيات، أي الليل، وأطلق على كل ما يدبر بعيدا عن الناس، ويقول الزمخشري في معنى النص الكريم: " يدبرون ويزورون - وأصله أن يكون بالليل - ما لَا يرضي من القول. . . فإن قلت: كيف سمى التدبير قولا، وإنما هو معنى في النفس؛ قلت: لما حدَّث بذلك نفسه سمى قولا على المجاز ".

فالتبييت معناه التدبير في الخفاء مطلقا، سواء أكان تدبير قول يسترون به عملهم، ويزينون به مظهرهم، أم ترتيب عمل يخفونه، ويقومون به، فإن أعمال المنافقين جميعها تدبَّر بليل، وتنفذ بليل، حتى تظهر آثارها في الجماعة، ولكن الله سبحانه وتعالى ذكر القول فقط، فقال: " ما لَا يرضي من القول "، فلماذا ذكر القول وحده؛ لقد وجه الزمخشري سؤالا قريبا من هذا، وأجاب عنه، ونحن نقول: إنَّه ذكر القول وحده مقترنا بعدم رضا الله تعالى، لأن أقصى ما يتستر به المنافق قول مزخرف يضل، ولذلك بَيَّن النبي - صلى الله عليه وسلم - أن عليم اللسان منافق القلب هو

<<  <  ج: ص:  >  >>