للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

فاستتر فهو في ستر الله، ومن أبدى صفحته أقمنا عليه الحد " (١) ويقول - صلى الله عليه وسلم -: " إن من أبعد الناس عن الله منازل يوم القيامة المجاهرين، قيل: ومن هم يا رسول الله؛ قال: ذلك الذي يعمل عملا بالليل قد ستره الله عليه، فيصبح يقول: فعلت كذا وكذا يكشف ستر الله " (٢).

وإن الجهر بالسوء يسهله، فتزداد الجرائم ويسهل ارتكابها لمن هو على استعداد لها، وكثيرا ما نرى الشبان يرتكبون جريمة معينة قد أخذوها من قصة أذيعت، أو نشرت، أو تردد ذكرها، فإن ذكر الشر يستهوي الشباب، خصوصا إذا قدم في عرض منسق يحبب الاستماع إليه، فإنه يسري في النفوس سريان الطعام المسموم في الأجسام.

وفوق ذلك فإن كثرة ذكر السوء والفجور يزيل استنكاره في النفس، ويذهب بروعة الحق، وإن ذكر السوء لأهل السوء يثير عدوانهم ويجعلهم يتبجحون في ارتكابه، ويباعد بينهم وبين الاستجابة لداعي الهدى، ذلك أن الناس إذا استتروا في شرهم، وظنوا أن الناس لَا يعلمونه كان كتمانه مسهلا لقتله في نفوسهم، فإن أعلن وفقدوا حياءهم استمرءوا الشر وأعلنوه، وكل إعلان منهم تغليق لباب الهداية في قلوبهم بيد أن الشر أحيان ايجب إعلانه لدفعه، إذا كان ثمة فريسة لهذا الشر، وتعدٍّ بالظلم، فإنه يجب دفعه، ولذلك ذكر سبحانه بعد أن قرر القاعدة العامة، وهي أنه لَا يحب الجهر بالسوء استثناء حال الظلم فقال:

(إِلَّا مَن ظُلِمَ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا) الاستثناء هنا عند بعض العلماء استثناء منقطع، فـ " إلا " هنا معناها لكن، والمعنى: لكن من ظلم له أن يجهر بالسوء لدفع


(١) موطأ مالك - الحدود فيمن اعترف على نفسه بالزنا (١٥٦٢) عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، أَنَّ رَجُلًا اعْتَرَفَ عَلَى نَفْسِهِ بِالزِّنَا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَدَعَا لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِسَوْطٍ فَأُتِيَ بِسَوْطٍ مَكْسُورٍ فَقَالَ: فَوْقَ هَذَا فَأُتِيَ بِسَوْطٍ جَدِيدٍ لَمْ تُقْطَعْ ثَمَرَتُهُ. فَقَالَ: دُونَ هَذَا فَأُتِيَ بِسَوْطٍ قَدْ رُكِبَ بِهِ وَلَانَ فَأَمَرَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجُلِدَ. ثُمَّ قَالَ: «أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ آنَ لَكُمْ أَنْ تَنْتَهُوا عَنْ حُدُودِ اللَّهِ مَنْ أَصَابَ مِنْ هَذِهِ الْقَاذُورَاتِ شَيْئًا. فَلْيَسْتَتِرْ بِسِتْرِ اللَّهِ. فَإِنَّهُ مَنْ يُبْدِي لَنَا صَفْحَتَهُ، نُقِمْ عَلَيْهِ كِتَابَ اللَّهِ ".
(٢) سبق تخريجه.

<<  <  ج: ص:  >  >>