للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

ولا شبهة في أن مقصده بالبحر ذي الأمواج ما هو فوق حاتم في الجود، ومن كان له ذوق فليذق مع هذه الآية قوله تعالى: (وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى)، حتى يعترف بالفرق المبين.

وينتهي من هذا إلى أن الملائكة المقربين أفضل من عيسى - عليه السلام -، وعيسى من أولي العزم من الرسل، فالملائكة أفضل من النبيين.

وقد خالفه في ذلك كثير من العلماء، وردوا عليه بردود لَا تسقط مقدمة الدليل وهو كون النص يفيد الترقي من المفضول إلى الأفضل، فالمسيح مفضول، والملائكة المقربون أفضل، ولكنها تبطل النتيجة في ذاتها، وهي كون الملائكة أفضل؛ ذلك لأن الحديث في الملائكة المقربين، فكيف تكون النتيجة أوسع وتعم الملائكة أجمعين، المقربين ومن دونهم؟.

وعندي أن الترقي قائم، ولكن في المعنى الذي سيق له الكلام، ذلك أن النصارى غلوا غلوا كبيرا في المسيح؛ لأنه ولد من غير أب، ولأنه جرت على يديه معجزات كثيرة، ولأنه روحاني المعاني، فبين الله سبحانه وتعالى أنه مع كل هذا لن يستنكف أن يكون عبدا لله، ولا يستنكف من هو أعلى منه في هذه المعاني وهم الملائكة الذين خلقوا من غير أب ولا أم، وأجرى على أيديهم ما هو أشد وأعظم من معجزات، ومنهم من كان الروح الذي نفخ في مريم، وهم أرواح طاهرة مطهرة، فكان الترقي في هذه المعاني، وهم فيها يفضُلون عيسى وغيره، وبذلك تكون الآيات بعيدة عن الأفضلية المطلقة، فلا تدل على أفضلية الملائكة على الرسل في المنزلة عند الله تعالى ورضوانه، وتكون الآية بعيدة عن موطن الخلاف، والترقي دائما يكون في المعاني التي سيق لها الكلام دون غيرها، وليس المتأخر أعلى في ذاته صن لمتقدم وأفضل، ولكنه أعلى في الفعل الذي كان فيه كقول القائل لَا تضرب حرا ولا عبدا، فالتدرج هنا في النهي عن الضرب، لأنه إذا كان ضرب العبد غير جائز فإن ضرب الحر من باب أولى غير جائز.

* * *

<<  <  ج: ص:  >  >>