الحق تبعا لما يهوون، لَا أن يكون هواهم تبعا للحق، وكان إغراؤهم من الفتنة لأنه يؤدي إلى وقوع الشدائد، ولأن الإغراء، كيفما كانت صورته فيه اختبار للنفوس، فالهداية البالغة أقصى الحكمة ترد الإغراء كيفما كانت صورته، وضعفاء النفوس أو العقول يفترون، فيقعون في البلية والشدة، وفي التفسير المأثور، أن بعض أحبار اليهود، قال بعضهم لبعض: اذهبوا بنا إلى محمد لعلنا نفتنه عن دينه، فأتوه، فقالوا: يا محمد، إنك عرفت أنا أحبار يهود وأشرافهم وسادتهم وإنا إن اتبعناك اتبعنا يهود، ولم يخالفونا، وإن بيننا وبين قومنا خصومة، فنحاكمهم إليك، فتقضي لنا عليهم، ونؤمن ونصدقك، فأبى ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأنزل (وَأَن احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ).
وإننا نرى في عصرنا بعضا من هذا الصنف، فلا تزال تطلع على طائفة منهم يقولون: إن التشدد في الأخذ بأحكام القرآن وما جاء به محمد - عليه السلام - ينفر الناس من الإسلام، ويبعدهم منه، وإنا لنسمع كلام هؤلاء وليسوا من غير المسلمين بل المسلمون تتلوى بذلك ألسنتهم، فمنهم من ينفر من تحريم الإسلام للربا، لأنه ضد الاقتصاد، ومنهم من يمنع إقامة حدود الله، ويقولون: إن ذلك يتنافى مع الحضارة، وينفر الناس من الإسلام. . . يرددون ذلك في مجالسهم، ويقولونه وهم على الأرائك متكئون، ويغمزون في القول لمن يتشدد، وجاراهم مع الأسى بعض من يتكلمون باسم العلم الإسلامي، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
وقد حذر الله تعالى النبي - صلى الله عليه وسلم -، وبالأولى المؤمنين من أن يفتنوا عن بعض ما أنزل الله تعالى، وتشديد التحذير من الفتنة في البعض، يتضمن التحذير من الفتنة في كل ما أنزل الله تعالى، إذ الفتنة في الكل أشد إيجابا للتحذير من الفتنة في البعض، هذا وإن الفتنة في بعض ما أنزل الله تعالى تؤدي إلى الفتنة في كل ما أنزل الله سبحانه، لأن ما أنزل الله سبحانه وتعالى وأوجب الأخذ به مرتبط الأجزاء متماسك، فإذا حلت عروة منه انحل سائره، كالبنيان المرصوص، وإذا تهدم جزء منه تداعت لبناته وانهار البنيان، وصار أجزاء منثورة لَا تربطها رابطة.