للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

يحتاج إلى أفق أوسع من الصبر في الشديدة، فتحري الأحكام، وتعرف أسبابها وغاياتها يحتاج إلى عقل أريب (١) مدرك ونفس هادية مؤمنة.

وكان داود وسليمان، من رجال الحرب الذين لقوا بأسها وشدتها، والصبر في البأس أمر واضح بين، وأيوب - عليه السلام - صبر على الضراء إذ نادى ربه رب أني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين، وقد ضرب به المثل في الصبر على الضراء لكل من يصيبه ضر، حتى لقد قالوا في أعلى درجات الصبر، إنه صبر أيوب، فقد صبر من غير أنين ولا شكوى، مع الرحمة والمحبة لمن عاشره في ضرائه.

ويوسف - عليه السلام - كان عبدا صابرا، صبر على كيد إخوته، وإظهارهم البغض والعداوة، ثم صبر على نعمة السلطان بعد ذلك، فاجتمع له نوعان من الصبر، صبر على البأساء والشديدة حتى إنه ليسترقّ، وصبر عن هوى الشيطان وكف لشهوة النفس، وإنه رأى برهان ربه في أدق المواقف انفعالا نفسيا، وتعرض لمهاوي الشهوات، (وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ. . .). وصبر على السجن مع الإحساس بالبراءة، وصبر على كيد النساء مع الكتمان من غير إفحاش، ولا تفحش، ابتلاه الله بترغيب النساء، فتقبل السجن عن أن يكون تحت إغرائهن: (قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكن مِّنَ الْجَاهِلِينَ).

وهكذا نجد المغالبة بين الإغراء الجارف، والصبر والعزيمة، وضبط النفس من الشاب القوي الجميل، ولقد هيا الله تعالى من بعد ذلك لهذا الشاب القوي أن يجلس على عرش مصر، فيكون الصبر على العدل، وتنظيم سياسة الاقتصاد، ومدافعة أهواء الناس، مع الصبر على البعد عن الأقارب، وعن أبيه الصابر الشفيق


(١) الأرِيبُ: العاقلُ. ورَجُل ارِيب من قوم أرَباء. لسان العرب.

<<  <  ج: ص:  >  >>