للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وفى الحق إن هذه الآية جمعت محاسن الأخلاق وبينت محاسن الشريعة، وحكمت بين الناس (وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٢٠٠)

النزغ الإفساد، ومن ذلك قول الله تعالى على لسان يوسف - عليه السلام - مخاطبا أبويه: (. . . وَجَاءَ بِكُم مِّنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَن نَّزغً الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ. . .)، ويظهر لي من استعمال القرآن الكريم أن النزغ يكون إفساد ما بين من يجب الارتباط بهم بالمودة، وإسناد النزغ إلى الشيطان؛ لأنه يكون من وساوسه التي تكبر السيئات وتصغر الحسنات. وقد قالوا: إن النزغ والنغز والهمز والوسوسة بمعنى واحد، وقد قال تعالى: (وَقُل رَّبِّ أَعُوذ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ).

وإن العلاج من نزغات الشيطان هو الاتجاه إلى الله تعالى أن ينزع من النفس أضغانها، وهمزات الشيطان فيها ليرتاح نفسيا، وليكون خيرا للناس، ويفتح قلبه لهم، وينبسط بالسرور لِلِقائِهم. ومعنى استعذ بالله، أي اجعل الله تعالى معاذك وملجأك، فإن الالتجاء إليه مُطْمَأن النفوس، ومكان استقرارها، ومن علا إلى ملكوت الله تعالى أحس بعلو عن الضغن وحسك الصدر، وأحس بأنه رباني لا ينزل إلى موضع التحاسد والتباغض.

وقول تعالى: (وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ) فيه " إن " مدغمة في " ما " الدالة على توكيد ما بعدها. والمعنى إن ينزغنك بشدة وقوة نزغ مصدره الشيطان، فاستعذ بالله، ولأن (وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ) فيها توكيد ألحقت به نون التوكيد الثقيلة، وكانت في معنى القسم، وقوله: (مِنَ الشَّيْطَانِ نَزغ) بتقديم الجار والمجرور يكون تأكيد أن النزغ من الشيطان وحده، فلا يكون إلا منه، وفي ذلك حض على مقاومته، والاستعانة على مقاومته، بكل ما يدفع شره، وفي ذكر أنه من الشيطان وحده بيان أنه شر مفسد ما بين الناس دائما.

<<  <  ج: ص:  >  >>