ويصح أن يفسر الانقلاب بمعنى أن يجعل أعلاه أسفله، وأسفله أعلاه، فيكون المعنى أنه شبه حال من يرتد بحال من انتكس فصار رأسه في أسفل، وعقباه في موضع رأسه، وفي هذا بيان أن من تكون هذه حاله معكوس منكوس قد نقض إنسانيته وكل مقومات الإنسانية في نفسه.
وإن بعض المؤمنين خافوا من أن تضيع صلاتهم الماضية، وخصوصا أن بعضهم قد مات، وصلاته بعد الهجرة كانت على القبلة إلى بيت المقدس، فشكا الأحياء منهم إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فذكر الله تعالى مطمئنا أنه لَا تضيع صلواتهم؛ ولذا قال تعالى:(وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيضِيعَ إِيمَانَكُمْ) والمراد من الإيمان هنا الصلاة، وعبر عن الصلاة بالإيمان؛ لأن الصلاة ركنه، وقوامه، فلا يعد الاعتقاد والإذعان إيمانًا من غير صلاة متجهة إلى الله تعالى، وإذا كان الاعتقاد به سلامة النفس والعقلِ، فالصلاة بها تأليف القلوب، وتطهيرها من الآثام، وقد قال تعالى:(إِنَّ الصَّلاةَ تَنهى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَلَذكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ. . .)، ولقد قال - صلى الله عليه وسلم -: " لا دين من غير صلاة "(١) فالتعبير عن الصلاة بالإيمان بيان لمكانها.
ولقد عبر سبحانه عن أن الله تعالى لَا يضيع الإيمان بقوله:(وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيضِيعَ إِيمَانَكُمْ)، أي ما كان من شأن الله تعالى، وسنته في الوجود أن يضيع إيمان المؤمنين، ونفي الضياع يقتضي غيره والجزاء عليه بثوابه عنه يوم الحساب، وإن الله تعالى لَا يضيع عمل عامل، فقد قال تعالت كلماته في استجابة دعاء الضارعين إليه:(فَاسْتَجَابَ لَهمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضيعُ عَمَلَ عَامِلٍ منكم مِّن ذَكَرٍ أَوْ أنثَى بَعْضكُم مِّن بَعْضٍ. . .)، وقال تعالى:(إِنَّا لَا نُضيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا)، فذلك شأن الله وما سَنَه، وهو العادل الحكيم.
وإنه لَا عقاب من غير شرع ينزل ببيان الأمر والنهي، فالذين صلوا على القبلة التي كانوا عليها كانوا طائعين، ولم يكونوا مخالفين عاصين، ولا عقوبة في طاعة.
(١) عن ابنِ عمرَ قالَ: قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: " لَا إِيمَانَ لمَنْ لَا أمانَةَ له، ولا صَلاةَ لمَنْ لَا طُهورَ له، ولا دينَ لمَنْ لا صَلاةَ لَهُ، إِنَّما مَوْضِعُ الصَّلاة مِنَ الدينِ كمَوْضِع الرَّأْسِ مِنَ الجَسَد ". [رواه الطبراني في الَأوسط والصغير وقال: تفرد به الحسين ابنَ الحكم الحِبْري. وانظر مجمع الزوائد (٤١٦١)].