للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

حرموها يعرفون مقدار الإنعام، وهي أفعال مختارة يريد وضع الأمور في مواضعها، وكل شيء عند اللَّه تعالى بمقدار وبميزان محكم.

وقال تعالى: (وَجَعَلَ لَكُم مِّنَ الْجِبَالِ أَكنَانًا)، وهي الكهوف والمغارات، وأكنان جمع كن، وهو ما يتقى بالاستتار فيه تتبع الأعداء، وتربص المتربصين، كما كمن النبي - صلى الله عليه وسلم - هو وصاحبه أبو بكر في غار ثور ثلاث ليال سويا، وكما كان - صلى الله عليه وسلم - قبل البعثة يتعبد في غار حراء الليالي ذوات العدد، وإن هذا كله يدل على أنها أكنان، إما استتارًا للعبادة، أو فرارا من عدو متربص، أو كن من مطر غامر، أو استظلال، ولماذا سماها اللَّه تعالى أكنانا، ولم يسمها بيوتا؛ لأن الناس لم يتخذوها بيوتا يسكنون فيها تكون مطمأنا وسكنا لهم تسكن فيها نفوسهم، ويطمئنون بعد تعب ومكان راحة، لأن جبال البلاد العربية لم تكن موضع اطمئنان كالجبال الخضراء، فلم تكن مساكن تكون لسترة حالهم، بل كانت أكنانا للاستتار من عدو أو مطر منهمر، أو اتقاء لحرارة الشمس أو نحو ذلك، وإذا كان من العرب من ينحتون من الجبال بيوتا فارهين كما جاء ذلك في قصص القرآن الحكيم، فإن ذلك لم يكن عند أهل الحجاز ونجد ونحوها.

وقد مَنَّ اللَّه تعالى بما هيأهم به ومكنهم منه، وهو ما ذكره بقوله تعالى:

(وَجَعَلَ لَكمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَر وَسَرَابِيلَ تَقِيكُم بَأسَكُمْ)، و (جعل) بمعنى صيَّر وهيأ بأن مكنكم من أن تصنعوا ذلك لأنفسكم، و (السرابيل) جمع سربال وهو القميص، وذكر أن هذه السرابيل نوعان نوع يتقى به الحر، فلا يكون عاريا يتعرض للجو اللافح، كما يتعرض العراة من الزنوج الذين لم يتمكنوا من قمصان يتقون بها الحر، وقد قيل إن السرابيل يتقى بها الحر والبرد، فكيف ذكر الحر فقط، والجواب عن ذلك أن ذكر اتقاء الحر تستدعي لَا محالة ذكر اتقاء البرد، وإن لم يذكر بالنص فقد فهم بالاقتضاء، وقد ذكر سبحانه الدفء من قبل في قوله تعالى، (لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأكلُونَ) وإجابة الزمخشري بأن ذكر الحر يناسبهم

<<  <  ج: ص:  >  >>