وهذه القرية وصفها اللَّه تعالى بأنها كانت آمنة كما كانت مكة، فقد كان فيها حرم آمن يتخطف الناس من حوله وكان يأتيها رزقها رغدا واسعا كثيرا إذ كان يجبى إليها من الثمرات استجابة لدعوة إبراهيم - عليه السلام -، وإذ قال سبحانه:(رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ (٣٧).
وقال تعالى في هذه القرية:(فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ)، (الفاء) للترتيب والتعقيب، أي أنها بدل أن تشكر نعمة اللَّه إذ منحها الأمن والعيش الرغد الهنيء، وهذا أقصى ما يطلب لمثل هذه القرية، بدل هذا كفرت، أي رتبت على النعمة الكفر بها، وهذا عكس ما يترقب، ويتوقع منها. فكان هذا فيه معنى التوبيخ أو التهكم بأمرها، والأنعم جمع نعمة، أو جمع نعمى، والمعنى النعم العالية التي بلغت أقصاها.
وقوله تعالى:(فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوع وَالْخَوْفِ)، في الكلام استعارتان:
الاستعارة الأولى: - أنه شبه الجوع والخوف باللباس السابغ الذي يغشى الداخل والخارج، وذلك بجامع اشتماله على الجسد والنفس، وكل الجوارح، فإن اللباس يغشى الجسم كله، والخوف والجوع يغشيان الجسم كله، فالخوف يغشى الجسم بالاضطراب والهلع والجزع، والجوع يغشاه بالضعف والحاجة، وهي كالعرى، أو كالثوب الذي لَا يستر.
والاستعارة الثانية - هي تشبيه الجوع والخوف بالشيء الذي يذاق جريًا على ما يجري على الألسنة من قول فلان ذاق مرارة الجوع، وقد قال في ذلك إمام البلاغة الزمخشري: " أما الإذاقة فقد جرت عندهم مجرى الحقيقة في البلايا والشدائد، وما يمس الناس منها، فيقولون: ذاق فلان البؤس والضر وأذاقه العذاب شبه ما يدرك من أثر الضرر والألم بما يدرك من طعم المر.