للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

يكون كله في بيان منهاجهم في خدع الناس، وسلب ثقتهم بقول الزور؛ ولذلك كان هذا المعنى أنسب للسياق.

واللدد في الجدل في ذاته صفة ملازمة للمراء والمهاترة؛ لأن من يكون همه الجدل يندفع إلى تأييد مذهبه بالحق وبالباطل، إذ لَا يهمه الحق بمقدار مايهمه انتصار فكره، وغلبه في ميدان النزال البياني؛ ولذلك كان مبغضا إلى الله، وإلى الذين يدعون إلى الحق المجرد؛ ولقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما رواه مسلم: " إن أبغض الرجال إلى الله الألد الخصم " (١) ولقد كان الإمام مالك رضي الله عنه يقول: كلما جاء رجل أجدل من رجل نقص مما جاء به محمد - صلى الله عليه وسلم -.

وفى الحق إن أولئك الذين يحاولون أن يكسبوا قلوب الناس ليتمكنوا من رقابهم بالقول المعسول الخادح فيهم الأمران السابقان: فيهم البغض الشديد للناس، وفرضهم أعداء وخصوما، ولا يفرضونهم أولياء وإخوانا؛ وفيهم اللدد في الجدال ومحاولة الغلب بالحق وبالباطل.

بل إن بغضهم للناس، أو على الأقل عدم نظرتهم إليهم نظرة أخوة واصلة، ومودة مقربة، هي التي جعلتهم يحاولون خديعتهم بالقول البراق، واليمين الغموس، والجدل الذي تبرق فيه الألفاظ، ويختفي فيه نور الحق وتنقطع به أسباب اليقين؛ ولو كانوا يفرضون الأخوة الرابطة بينهم وبين الناس، لأحبوا لهم ما يحبون لأنفسهم، ولكرهوا ما يكرهون لهم، ولكشفوا عن نيتهم واضحة بينة؛ فالحق دائما أبلج، والباطل لجلج (٢)؛ فحيثما كانت خديعة فثمة هوة فارقة، لَا أخوة جامعة؛ وحيثما كانت لجاجة فثمة حق ضائع وباطل رائج.


(١) متفق عليه؛ رواه البخاري: كتاب المظالم والغضب (٢٢٧٧)، ومسلم: العلم (٤٨٢١) عن أم المؤمنين السيدة عائشة - رضي الله عنها وأرضاها.
(٢) يقال: الحَقُّ أبْلَجُ والباطلُ لَجْلَج، أي يُرَدد من غير أن يَنْفذ، واللَّجْلَجُ: المخْتَلِطُ الذي ليس بمستقيم، والأبْلَجُ: المُضِىءُ المُستقيمُ. لسان العرب.

<<  <  ج: ص:  >  >>