الأرض، فإذا هلك الأمران بسبب استحكام الأهواء والشهوات، فقد عم الفساد؛ وهلك العباد.
وقوله تعالى:(وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَ) قد قال العلماء فيه إن التولي يحتمل أحد أمرين: إما أن يكون معناه الانصراف والذهاب بعد أن خدع الناس بحلو القول وأقسم بالأيمان المغلظة الكاذبة وجادل وناضل فيما يدعيه من حب للخير والإصلاح، وإما أن يراد به التولي بمعنى الولاية والإمرة على الناس، ولقد قال العلماء إن الآية الكريمة تحتمل الأمرين كما نوهنا.
وعلى الأمر الأول يكون المعنى والله سبحانه وتعالى أعلم بمراده: إن ذلك الذي يدعى الصلاح والإصلاح، وحب الخير والمنفعة، ويعلن ذلك بحلو اللسان، ويقسم عليه الأيمان، ويجادل عنه بأبلغ البيان - إذا تفرقت المجالس، وانصرف إلى العمل، بدت طويته، وظهرت نيته، وانكشفت سريرته، فاندفع في الشهوات ينال منها؛ وقد ترك قوله دَبر أذنه، وما قال ما قال إلا ليكيد أو ليخفي حقيقة أمره، فيكون منه الشر والفساد، وإذا كثر من على شاكلته فسدت الحال، وكانت العاقبة السوءى.
وعلى الأمر الثاني، وهو أن يكون معنى تولى صار واليًا: أن هذا الذي اجتذب ثقة الناس بالأماني البراقة، والأقوال الخادعة والأيمان الكاذبة واللسن في الجدل إذا تحققت بغيته، ونال طلبته، وصار واليًا على الناس، لَا يسعى لنفعهم، ولا يقيم الحق بينهم، بل يسعى لإشباع رغباته، ويحكم الناس لنفسه لَا لهم، والفاصل بين الحكم العادل والحكم الظالم، أن الحاكم العادل يعتقد أنه تولى أمر الناس لتكون ثمرة الحكم للناس، كما كان الشأن في أبي حفص عمر رضي الله عنه، وأما الحاكم الظالم فهو الذي يحكم الناس لتكون الثمرة له ومن معه، وأمثلة ذلك في التاريخ كثيرة لَا يحصيها العد.
وهذا الخادع الكاذب المجادل المرائي يكون حكمه الناس لنفسه لَا لهم، ومن ثم تحكم رغباته وأهواؤه، ومن حكمت رغباته وأهواؤه فإن لممعيه لَا محالة يؤدي إلى الفساد، لَا إلى الصلاح، لأن الطمع يلد الطمع، والهوى يلد الهوى فتتسلسل