للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

ثم إن نفس كل إنسان فيها نزوع " إلى الاجتماع، واستعانة بعضهم ببعض؛ وحيث كان الاجتماع لابد من نظام يربط، وشرع يحكم، وعقاب يردع؛ وإلا أكل القوي الضعيف، كما يأكل كبار السمك صغارها عند اجتماعها، وكما تفترس السبع الأوابد من يكون أضعف منها.

وعلى هذا تكون الفاء في قوله تعالى: (فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ) للترتيب والتعقيب في موضعها من غير حاجة إلى التقدير؛ لأن كون الناس أمة واحدة اقتضت الرسالة واقتضت الاختلاف، فكان لابد من شرائع السماء لتبخع الشهوات، ولتقضي على الخلاف، ولتهدي الناس وتنقذهم من الضلال. ولأن اتحاد الفطرة واتحاد الغرائز، واندفاعها إن لم يكن لها عاصم من شرع زاجر وعقاب مانع، يجعل الناس يتناحرون ويتنابذون فلابد من حكم صالح بين الناس، فكان ذلك الحكم من السماء.

" وكان " على هذا التأويل تكون دالة على الاستمرار والثبوت؛ لأن الناس بمقتضى فطرهم دائما في حاجة إلى شرع من السماء، لَا يهتدون إلا به، ولا ينير السبيل لهم شيء سواه؛ وإنه مهما تعلُ العقول فلن تقوى على التهذيب من تلقاء نفسها؛ بل لابد من دين قد اشتمل على الترغيب والترهيب من بارئ الكون ومنشئ الخلق، الذي خلق الإنسان وهداه النجدين: طريق الخير، وطريق الشر. واعتبِر بما ترى بالمدنية الحاضرة؛ فقد علت العقول عند أهلها، حتى استخرجوا كنوز الأرضن، وتعرفوا على كثير من نواميس الوجود، ولكنهم يأكل بعضهم بعضا لهجرهم الأديان، وعدم وجود داع ينادى بينهم باسم القرآن.

وقد يقول قائل: إن جعل " كان " للاستمرار، يفيد أن وحدة الناس في الفطرة وتأديها إلى التناحر يقتضي بعث النبيين إلى يوم القيامة، وإنه لابد من نبي لعصرنا؛ ونحن نسلم بالاعتراض، ولا ندفع إيراده، ونقول: نعم إنه لابد من قيام رسالة إلى يوم القيامة، وتلك الرسالة قائمة إلى يوم القيامة؛ وهي رسالة محمد - صلى الله عليه وسلم - التي جاءت بكتاب تتجدد به الرسالة والبعث إلى أن تفنى الأرض ومن عليها، وذلك

<<  <  ج: ص:  >  >>