بالقرآن الكريم لَا تبلى جدته، وبقائه محفوظا إلى يوم القيامة من غير تحريف ولا تغيير ولا تبديل؛ وكون الذي يقرؤه كأنما يتلقاه عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، فيتلقى التكليف؛ وهو في ذاته حجة قوية معجزة، ولا يختص إعجازها بجيل من الأجيال، ولا عصر من العصور؛ إذ هو بما اشتمل عليه من علم وشريعة، وقصص مستقيم، معجز إلى يوم الدين؛ وإذا كان الناس في جهالة به، ولم يتلقوا رسالته، فهذا من تقصير الذين توارثوه وانتقل إليهم متواترًا جيلا بعد جيل إلى يوم القيامة؛ فبعثة النبي - صلى الله عليه وسلم - مبشرًا منذرًا إذن متجددة فيه؛ وحق على حملته، ومن توارثوا علمه أن يعلنوه بين الناس، ليصدق عليهم قول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: " العلماء ورثة الأنبياء "(١) وإلا فهم عن ذلك في واد يهيمون.
(وَأَنزَلَ مَعَهُم الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ) بعث الله سبحانه وتعالى النبيين مبشرين ومنذرين، أي مبشرين بحسن العقبى في الدنيا والآخرة إن أطاعوا ربهم، ومنذرين بسوء العقبى في الدنيا والآخرة إن عصوا ربهم، ووقعوا في الشر، ولم يستقيموا على الطريقة.
ولقد أنزل الله سبحانه كتابًا مشتملا على الحق مع كل نبي يرشد به ويبين ويهدي ويقوم ويحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه، بالحق الذي اشتمل عليه، إذ إن الاختلاف من طبيعة التكوين الإنساني، ومشتق من كونهم أمة واحدة في الجهل بحقائق الوجود إلا من رحم الله، وإن الغرائز إن لم يكن لها عاصم من الإرادة القوية والهداية الإلهية تندفع إلى الشهوات فتتناحر القوى ويأكل القوي الضعيف ولقد ذكر الكتاب بصيغة المفرد، مع أن كل نبي مبعوث له كتاب، وجاء محمد بكتاب جامع مصدق لما بين يديه وما خلفه يهدي للتي هي أقوم؛ عبر بصيغة الواحد للإشارة إلى أن كتب النبيين وإن تعددت هي في لبها كتاب واحد؛ لاشتمالها على شرع واحد في أصله، كما قال تعالى: (شرَعَ لَكم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي
(١) جزء من حديث رواه الترمذي في العلم (٢٦٠٦)، وأبو داود: العلم (٣١٥٧)، وابن ماجه في المقدمة (٢١٩)، والدارمي في المقدمة (٣٤٦)، وأحمد في مند الأنصار رضي الله عنهم (٠٧٢٣ ٢) كلهم عن أبي الدرداء رضي الله عنه، وذكره البخاري تعليقا في ترجمة بابأ العلم قبل القول والعمل ".