تحتمل كلمة الإخراج المعنيين، فيحتمل أنهم أخرجوا الكبار، وأبقوا الصغار لينشئوهم عبيدًا لهم أو أدوات عمل؛ ويحتمل أنهم أبقوهم أذلاء قد ألصقوا بالأرض وليس بصاحب بيت من لَا يديره، ولا بصاحب البلد من لَا يكون له أمره؛ وأولادهم لَا سلطان لهم عليهم، فهم ليسوا لهم، بل لعدوهم.
(فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِّنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بَالظَّالِمِينَ) قال بنو إسرائيل الحق، وفعلوا الباطل، قالوا إنه لَا مسوغ للقعود عن القتال، لأنه منا جهاد عن النفس، والمال والولد، والأهل والديار؛ ولكنهم عندما اشتدت الشديدة والْتَقى الجمعان، تولى الكثير منهم، وصبر القليل؛ وذلك عندما اختبروا بالنهر كما بينا وهذا ما يذكره قوله تعالى:(فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِّنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بَالظَّالِمِينَ)، أي فلما فرض عليهم وكانت القيادة الحكيمة القادرة، وانتظمت الصفوف، وتولوا عن القتال أي أعرضوا عنه؛ والتولي عن القتال والإعراض عنه يتضمن معنى الفرار في الزحف بأن يولوهم أدبارهم، وبألا يسلحوا نفوسهم بالصبر، والضبط، فلا يجعلوا لشهواتهم سلطانًا على إرادتهم، وبأن يتمردوا على القيادة، ولا يطيعوها في وقت لَا يجدي فيه إلا الطاعة المطلقة.
وإن بني إسرائيل بتوالي الهزائم عليهم، وسيطرة الشهوات على إرادتهم، وتفكك وحدتهم، كشأن كل الأمم المغلوبة على أمرها، قد تحقق في الكثيرين منهم كل أسباب الإعراض عن القتال، أو الفرار في الزحف، أو التمرد وقت الحاجة إلى الطاعة المطلقة، وتحكم الشهوة في أشد أوقات الحاجة إلى ضبط النفس والصبر؛ وإن هذه الحال كما قلنا تلازم الأمم المغلوبة على أمرها، حتى تتجه عزائم أهلها إلى التغيير من هذه الحال، أو يكون منهم فئة قادرة تتولى في أول الأمر لقاء العدو بنفسها، ثم يسري الخلق القوي شيئا فشيئًا في سائر الأمة، فتكون العزة بعد الذلة، ويبدلهم الله من بعد خوفهم أمنًا.
لقد صبر القليل من بني إسرائيل، وكانوا فئة الله الغالبة، وسرى دم الحياة في الأمة بانتصار تلك الفئة القليلة، فقادها من بعد ذلك نبي الله داود إلى مواطن النصر والظفر.