(يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ) هذه الجملة تأكيد لنفي الشفاعة وتأكيد لكمال سلطان الله سبحانه وتعالى في هذا الوجود. والضمير في أيديهم وخلفهم يعود إلى ما في السماوات وما في الأرض؛ وعبر بضمير الذكور العقلاء تغليبًا لجانب العقلاء في السماوات والأرض من ملائكة أطهار وأناسي سواء أكانوا أشرارًا أم كانوا أبرارًا؛ وما بين أيديهم هو ما يعلمونه من شئون سابقة أو حاضرة، وما وقع منهم مما يوجب الحساب والجزاء من ثواب أو عقاب. وعبر عن هذا بما بين أيديهم؛ لأنه حاضر يستطيعون أن يعرفوه؛ ولا عجب في أن يعرف الإنسان ما وقع في الماضي؛ فهو من حيث التمكن من معرفته كالشيء الذي يكون بين يدي الإنسان من حيث إنه يكون محضرا مهيئًا، وكذلك يكون مما بين يدي الإنسان المحسوسات والمعلومات التجربية التي يمكن الإنسان بعقله أن يدركها. وأما ما خلفهم فهو ما يكون علمه مغيبا عنهم، إما لأنه في ذاته خفي لَا يدرك كنهه، ولا تعلم حقيقته؛ وليس في طاقة العقل البشرى - من غير استعانة بالنقل - معرفته؛ وإما لأنه أمور ستقع في المستقبل قد غيب عن البشر العلم بها، ومنه ما يكون يوم القيامة، أو اختص بها عالم الغيب في السماوات وفي الأرض، وعبر عن ذلك النوع من العلم بأنه (خَلْفَهُمْ) لأنه يخلفهم في زمانه، ولأنه مستقبل وليس من مستدبر الماضي.
وإن العلم بالماضي والحاضر والمستقبل - وما وقع وما لَا يقع ينفي الشفاعة بمعنى أن يستنزل الشفيع المشفوع عنده عما اعتزم وأراد؛ لأن ذلك يقتضي ألا يكون عالما بما مضى أو بما يكون، إذ الشفيع ينبه المشفوع عنده بما غاب عنه من أمر، وذلك لَا يليق في حق العليم الخبير، وهو ينافي علمه بالماضي والقابل وما يقع في الحس، وما يكون في الغيب؛ ولذلك أجمع علماء المسلمين على نفي الشفاعة بهذا المعنى، إذ الشفاعة التي قررها جمهور أهل السنة هي الشفاعة لمن ارتضى، والتي قدر الله سبحانه وتعالى إجابتها تكريمًا للشافع، ورحمة بالمشفوع لأجله.
(وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ) هذه الجملة السامية بيان لنقصان علم المخلوق بجوار علم الخالق، والعلم المراد به المعلوم، أي لَا يحيطون بشيء من