للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وقال بعض آخر: إن أولئك الفقراء لَا يسألون مطلقا لَا بإلحاف ولا بغير إلحاف؛ وإني أرى أن ذلك هو الراجح؛ لأنهم لو كانوا يسألون ما حسبهم الجاهل أغنياء من التعفف؛ ولو كانوا يسألون ما كانوا متعففين، ولو كانوا يسألون ما احتاج البصير ذو الوجدان إلى تعرف حالهم بالمظاهر والسمات؛ فإن طلبهم يغني عن التعرف، إذ هم يعرفون أنفسهم بالسؤال؛ فسياق الآية يفيد أنهم لَا يسألون مطلقا؛ ولكن لماذا كان النفي متجهًا إلى الإلحاف في ظاهره، لَا في أصل السؤال؟ فنقول في الجواب عن ذلك: إن النفي ذكر بهذه الصيغة، ليكون فيه إيماء إلى أن يوازيهم المعطي بغيرهم، وأن غيرهم يسأل الناس إلحافًا وهم لَا يسألون، فالله سبحانه وتعالى نفَى عنهم ما يقع من غيرهم، والنفي بهذه الصيغة فيه تعريض بالملحفين، وبه يبدو فضل المتعففين.

وفى الحقيقة إن نفي السؤال قد فهم فهما ضمنيا واضح الدلالة من الأوصاف السابقة؛ أما الوصف الأخير فهو ينفي عنهم ما يقع من غيرهم وهو الإلحاف، ويندر أن يكون سائل غير ملحف، وذلك لأن السؤال حيث وقع يكون التعفف قد زال، وإذا زال التعفف وجد الطلب والرغبة في الأخذ، وعند ذلك يكون الإلحاف، حتما.

وإنه بلا شك يجب على المعطي أن يبتدئ في عطائه بأولئك المتعففين الذين لا يسألون؛ لأنهم الذين يستحقون، وهم المساكين كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " ليس المسكين الذي ترده التمرة والتمرتان، إنما السكين المتعفف، اقرءوا إن شئتم (لا يَسأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا " (١).

وإنه إذا أعطى هذا المتعفف يجب عليه أن يستر حاله، ولا يكشف أمره، ليكون ذلك عونًا له على تعففه وتحمله، وكل كشف له أذى، والأذى من آفات الصدقات.


(١) رواه البخاري: التفسير - لَا يسألون الناس إلحافا (٤١٧٥)، ومسلم واللفظ له: الزكاة - المسكين الذي لا يجد غنى (١٧٢٣).

<<  <  ج: ص:  >  >>