ومعنى العذاب الذي ينزل من فوق، أطلقه الكثيرون من العلماء على ما ينزل من السماء؛ ببعث وإثارة من الله من صواعق وإعصار وريح فيها صرٌّ، وحاصب من السماء، وحجارة من سجيل تجعلهم كعصف مأكول، وغير ذلك مما ينزل الله من علٍ، والعذاب الذي يكون من تحت الأرجل مما يكون من الأرض التي يفترشونها من خسف في الأرض وميد فيها، وبراكين وزلازل، وغير ذلك من آفات الأرض التي تقرض الزرع.
وعبر عما يجيء من الأرض بقوله تعالى:(مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ) وذلك للإشارة إلى قربه الشديد منهم، وإلى أنه يكون في مقام استقرارهم، فيكون ميد الأرض من تحت أقدامهم حيث هم مستقرون فيها، وللإشارة إلى أنهم أول من يصابون بهذا العذاب، ولا منجاة منه، إلا أن يكون لله تعالى في منجاتهم إرادة.
وروي عن ابن عباس أنه فسر العذاب من فوقهم بفوقية معنوية، وهم الأئمة المفسدون، والحاكمون العابثون، ومن هم تحت أرجلهم بالرعاع الأقربين يهرفون بما لا يعرفون ويتبعون كل ناعق يدعو إلى هواه ويقفون على ما يريد (١)، فعلى هذا النظر تكون الفوقية والتحتية ليست حسية، وإن لذلك الكلام وجها من الحقيقة، فإن أشد ما تصاب به الأمم أن تتحكم فيهم أئمة الفساد، وأن يجدوا تابعا من الذين لَا يعرفون كيف يرادون، أعلى الخير أم على الشر، وعلى ورد الماء العذب الذي يسقي النفوس، أم على مناقع الأوباء الخلقية والاجتماعية، فإن ذلك يفني الأمم في وحدتها واجتماعها، وإن تخريب السماء وتخريب الأرض يسرع تعويضه، وإقامة بديل له، أما تخريب النفوس وإشاعة الرذيلة فلكي تخرج الأمة
(١) روى ابن جرير الطبري في جامع البيان - ج ٧، ص ١٤١، أن ابن عباس كان يقول في هذه: (قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ) فأما العذاب من فوقكم: فأئمة السوء. وأما العذاب من تحت أرجلكم: فخدم السوء.