للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

أما قوله تعالى: (فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ) فهي تبين العلاقة الدولية بين المسلمين وغيرهم؛ لأن الخطاب فيها للمسلمين مجتمعين كدولة واحدة لها نظم حاكمة، وسياسة قائمة، يبين هذا الخطاب ما يجب على دولتهم في معاملة غيرهم به في حرب أو سلم، وفي منازلة أو مهادنة، فذكر الله سبحانه أن تلك المعاملة هي المعاملة بالمثل.

ومعنى قوله تعالى: (فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدوا عَلَيْه بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ) أن من يعتدي عليكم من أمم غيركم بانتهاك حرمة من حرمَات دولتكم أو إلحاق أذي بجماعتكم، بحرب يشنها عليكم، أو مصادرة لمتاجركم، أو ترصد في الطرق التي تسلكها قوافلكم أو سفنكم، فعاملوه بالمثل، وأنزلوا به مثل ما ينزله بكم؛ وإن انتهك. حرمة مكان فانتهكوا منه مثل ما انتهك من غير تحرج في ذلك ولا تأثم، فإن هذا ما تقضى به قوانين المساواة والمعاملة بالمثل.

وهنا يثير العلماء بحثا لفظيا: كيف يسمى المقابلة بالمثل اعتداء؛ إن الاعتداء هو الابتداء، أما العقوبة أو المقاومة فهي عدل وانتصار، لأن مقاومة الظلم هي عين العدل، فكيف تسمى اعتداء؛ وقد أجابوا عن ذلك بأن المشاكلة في الفعل التي تقتضيها المماثلة سوغت أن يسمى الفعل باسم نظيره، كما قال تعالى: (وَجَزَاءُ سَيِّئَةِ سَيِّئَةٌ مثْلُهَا. . .)، وإن ذلك لَا يمنع الحقيقة، لأنه وإن تشاكلتَ الأفعال والأوصاف المنبعثة من الفاعل مختلفة، فالفعل الأول اعتداء لأنه صدر عن ظالم، وكان ظلمًا، والثاني ليس في حقيقته اعتداء، لأنه انبعث عن عادل، وكان عدلا.

هذا مرمى ما قاله العلماء اعتراضًا وإيرادًا، وجوابًا وردا؛ وعندي أن تسمية مقاومة الاعتداء بمثله اعتداء، إذا كانت المقاومة حربا ونزالا، فيه إشارة إلى معنى إنساني جليل، وهو أن القتل في كل صوره وأحواله، ولو كان ردا لمثله، فيه اعتداء على النفس الإنسانية التي حرم الله قتلها بغير نفس أو فساد في الأرض، وأنه عمل خطير تقشعر من هوله الأبدان، ولا يصح الإقدام عليه إلا إذا اضطرت الفضيلة والأخلاق إليه؛ وإن الإقدام عليه يكون كالإقدام على الضرورات المحظورة في

<<  <  ج: ص:  >  >>