للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

ولذلك كان أخوف ما يخافه النبي - صلى الله عليه وسلم - على أمته من بعده: رجلا عليم اللسان منافق القلب (١)؛ فإن ذلك النوع من الرجال يثير التظنن بالصالحين، ويفسد الأمر على المحقين؛ ويجعل بأس الأمة بينها شديدا، ولقد روى ابن جرير عن بعض الصالحين أنه قال: إني لأجد صفة ناس من هذه الأمة في كتاب الله المنزل: قوم يحتالون على الدنيا بالدين، ألسنتهم أحلى من العسل، وقلوبهم أمر من الصبر، يلبسون للناس مسوك الضأن، وقلوبهم قلوب الذئاب؛ ويقول الله عز وجل: فعليَّ يجترئون وبي يفترون، وعزتي لأبعثن عليهم فتنة تترك الحليم فيها حيران (٢).

ومهما يكن من أمر ذلك الخبر، فإن معناه متحقق سجله الإسلام، وأثبتته الوقائع، فما من أمة ابتلاها الله بهيمنة هذا النوع من الرجال إلا فسد أمرها، واضطرب حالها، وسارت في طريق أوله نفاق وفساد، وآخره فتنة وخراب.

(وَهوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ) هذه هي الصفة الثالثة الملازمة للمخادعين الذين يستلبون قلوب الناس من جنوبهم بحسن بيانهم وكذبهم على الله بايمانهم، والألد من معناه في اللغة: العوج، وفسر بعض العلماء قوله تعالى: (وَتُنذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا).، أي عوجًا، والمنافق ألد دائما لأنه أعوج دائما.

واللدد من معناه اللغوي أيضا: الشدة في الخصومة والمغالبة فيها، ويقال رجل ألد وامرأة لدَّاء، وقد لَددَ يَلُدُّ - كفرح يفرح - لددا؛ أي صار ألد، ولدَدْته ألُدُّ كنصر ينصر إذا جادله فغَلبه، وقال الزجاج في أصل اشتقاق اللدد بمعنى الشدة في الجدل والخصومة إنه مأخوذ من لديدي العنق، وهي صفحتاه؛ وتأويله أنه من أي وجه أخذ من يمين أو شمال في أبواب الجدل غلب.


(١) عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِي اللَّهُ عَنْهُ - أن رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " إِن أخْوَف ما أخَاف عَلَى أمَّتِى كُل مُنَافِقٍ عَليم اللسَانِ ". [رواه أحمد في مسند العشرة المبشرين بالجنة (١٣٧)].
(٢) روى الترَمذي: كتاب الزهد - باب ما جاء في ذهاب البصر (٢٣٢٨) عن أَبي هُرَيْرَةَ، يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " يَخْرُجُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ رِجَالٌ يَخْتِلُونَ الدُّنْيَا بِالدِّينِ يَلْبَسُونَ لِلنَّاسِ جُلُودَ الضَّأْنِ مِنَ اللِّينِ، أَلْسِنَتُهُمْ أَحْلَى مِنَ السُّكَّرِ، وَقُلُوبُهُمْ قُلُوبُ الذِّئَابِ، يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: أَبِي يَغْتَرُّونَ، أَمْ عَلَيَّ يَجْتَرِئُونَ؟ فَبِي حَلَفْتُ لَأَبْعَثَنَّ عَلَى أُولَئِكَ مِنْهُمْ فِتْنَةً تَدَعُ الحَلِيمَ مِنْهُمْ حَيْرَانًا ".

<<  <  ج: ص:  >  >>